بعد إنقطاع دام لشهور وكاد يعصف بالكتابة التي إنخرطت
فيها، أعود كي أرافع عنها وأدافع عن مشروعي في التدوين، طيلة هذه الفترة سكنني
هاجس القراءة الفلسفية للأفكار والمعارف من مختلف المشارب المعرفية، وأنا أقرأ
رواية "عزازيل" دخلت في صراع ذاتي مرير، فهناك قوة تدعوني للإستمرارية
في القراءة، وأخرى تلح على بدء الكتابة التي طالما همست باعتبارها حفظا للأصوات أو
المعرفة، من هنا راهنية "دريدا" في "الغراماتولوجيا".
عند رجوعي من سفرية إلى زاكورة، لاحظت أني صرت مثل
"ابن بطوطة" الذي يشد الرحال إلى مختلف الأمصار والأقطار، تعرضت
لإنتقادات من طرف أصدقائي كوني أنزع نحو معرفة النائي والمغمور من بلدنا.
إن الزمن بتلابيبه في صحراء "بني علي" لا ينشطر
أو ينقسم إلى ماضي/حاضر/مستقبل، لأن هذه التصنيفات هي نتاج للتحديث الذي فرضته
التقنية والعولمة، راعني ما شاهدته في تلك الأقطار: صحراء قاحلة، حرارة مرتفعة، جو
رطب، غيوم تحكي قساوة الطبيعة ورياح رملية أبت إلا تنتقل بحرية ودون سلطة موجهة.
لم أندهش قط من مسارات الطرق الوعرة قدر إندهاشي من سلاسل جبلية رابطة بين
"زاكورة" و"ورززات" تدعى "أيت ساون"، مسافة طويلة،
أراضي ليست بها خضرة وكل ما يوجد هو الإحتراق الدائم.
"أيت مبارك أوقاديل" أمازيغ يقطنون صحراء
زاكورة القاحلة، نخيل،ماء،رمان، زراعة خفيفة وحفيف رياح حذرة، كل ذلك يمتزج بهدوء
قاتل ينعكس على ذهنية الأفراد هناك، كل من إلتقيت بهم هناك يحيون عالمهم المحدود
البعيد جدا عن الصخب المدني الحديث. الأسطورة أحيانا تجد مكانا آمنا لتنتعش فيه،
ولعل ذاك ما يفسر وجود سبع زوايا دينية لواحة ليست ممتدة جغرافيا كثيرا. يتحدث
أحدهم عن قصة أحد الأولياء بقوله:" إن السبب في تشتت القبيلة هو عدم إمتثالهم
لتوجيهات الولي الصالح الذي كان يعلمهم ويعطيهم دروسا في الحياة والدين والمعيش،
كما كان يتخذ شكل إمرأة كي يحاضر وسط النساء ويقوم بتوجيهن. لحظة رؤيته لمنكر أتوه
أفراد قومه قام بالضغط على حلمته فخرج منها الحليب ورشه على هؤلاء ودعى لهم
بالتفرقة، ومن هنا وجود هذا التعدد في الزوايا".
حينما تقسوا الطبيعة وتكون حياة السكان بعيدة عن التحديث
تنتعش الخرافة وينكمش العقل. "عبد القادر" بحكم تكوينه الجامعي يشكل
عنصرا ثائرا في وجه هذه التقاليد، في لحظة شاهدنا أطفالا يلعبون حفاة القدمين، ولا
يأبهون بهذه الطبيعة القاسية، أكد لي صديقي عدم تقبله للزواج إنطلاقا من صعوبة
إحتضانهم وتوفير الراحة لهم، ومنظر "الحفي" هو ما أثاره.
صباح اليوم الموالي لم أستطع المكوث طويلا في "بني
علي" صرت أتحين الفرصة للعودة أو حتى الإستمرارية دون الإقامة في مكان محدد،
غاذرت تجاه "محاميد الغزلان" وهي بلدة صغيرة جدا، تمثل المركز الحدودي
مع الجزائر، قررت لحظتها إكتشاف عمق الصحراء الشرقية، الوقوف على الحدود له ما
يميزه، وهو إختبار لإمكانية الوجود ضمن جغرافيا معينة، لكن لماذا هذه الحدود؟ من
المستفيد من وضعها؟ ربما تكون أفكاري مثالية شيئا ما، لكن فقط هواجس ألمت بي
لحظتها. أذكر أن ضيقا في التنفس قد حصل لي في تلك البلدة لا أدري سببه، لكن حدسي
أخبرني بأن ذلك نتاج للجو الصحراوي العميق والبعيد كلية عن الجو الغربي الذي
إعتدته بحكم قربه من البحر.
إلتقيت صدفة بأحد الجنود المرابطين بهذه البلدة، نظر إلي
نظرة إستغراب وتساؤل:
_ ماذا تفعل في هذا البلد النائي؟
_ أتيت لزيارة أحد أصدقائي بالمنطقة، فقررت أن أقف بهذه
البلدة.
_ حتى ولو كان أعز أصدقائي فلن أتي لهذه البلدة ولو
إنعدمت الحياة.
كلمات الجندي تنم عن روح عدم الرضى الذي ينتابه نتيجة
إرادته في مغاذرتها لأنه لا توجد ملاهي أو منتزهات أو أماكن إستجمام، ما يوجد هو
الزوابع الرملية والحرارة المرتفعة.
بعدها ودعت صديقي وقررت العودة إى مدينة
"أكادير" كي أمكث فيها بضع أيام. صرت أمقت حركة وسائل النقل من كثرة
إستعمالها لفترات طويلة من الزمن.
الترحال والسفر ضروريين: إعطاء المعنى، نسيان الآلآم
اليومية، الإبتعاد عن بواعث اللذة الجسدية.
بقلم الأستاذ مولود