تمر هذا
العام الذكرى العاشرة لرحيل الناقد الفلسطيني - الأميركي إدوارد سعيد (1935- 2003)
الذي يعدّ واحداً من كبار النقاد في القرن العشرين والذي يطرح عمله النقدي الكثير
من الأسئلة حول عالميّة النقد والنظرية وأثر النشأة والتكوين والتجربة الوجودية
والواقعية على الأفكار والأسئلة التي ينطلق منها النقاد والمنظّرون المؤثرون في
ثقافات العالم المتعددة.
لقد شغل
السؤال عن نظرية نقدية عربية عدداً من النقاد والباحثين العرب، وتردد الكلام
كثيراً على إمكان وجود نوع من المزاوجة بين الموروث النقدي والتيارات النظرية في
النقد المعاصر، الذي يصدر من قلب المركزية الغربية. ولا شك في أن انشغال النقاد
العرب بسياسات الهويّة واقتصاد المعرفة، ومن ضمن ذلك استيرادُ النقد والنظرية
بالطريقة نفسها التي تُستَورد فيها السلع الاستهلاكية، وكذلك باحتدام الصراع بين
المركز الغربي والعالمين العربي والإسلامي على مدار القرنين الماضيين، هو ما يوجّه
الكثير من الأسئلة والمناقشات التي تتباين فيها التوجهات بين من يرى أن النظرية
عالميّة التوجه والمصادر، ومن يرى أن النقد والنظرية مربوطان ربطاً محكماً، لا
فكاك منه، بشروطهما التاريخية والثقافية والحضارية التي تسم حقبةً أو عصراً بعينه.
كما يرى طرفٌ ثالث أن من الضروري الاعتراف بقدرة النقد والنظرية على الارتحال من
مواطنهما الأصلية ليتغيّرا ويغيّرا، من ثمّ، المناخ والتوجهات الثقافية التي وفدا
إليها.
على خلفية
هذه الأسئلة النقدية والنظرية والمعرفية المركّبة، يحضر إدوارد سعيد. فهو يمثّل
أحد وجوه الجدل حول النظرية والممارسة النقدية عالميّاً وعربيّاً. فقد مثّلت
تجربته الثقافية والنظرية والنقدية، وحتى الشخصية، نوعاً فريداً من الارتحال من
ثقافة إلى ثقافة، ومن مكان إلى مكان، ومن لغة إلى لغة، حتى أصبح مثالاً لعالميّة
الثقافة والنظرية، وتطبيقاً مبدعاً لمفهوم هُجنة الثقافات وتفاعلها وقدرتها على
التأثير عميقاً في بعضها بعضاً.
يعيدنا
السؤال عن كون إدوارد سعيد جزءاً من الثقافة العربية أو الغربية، وعن العناصر
التكوينيّة التي ساهمت في توجيه رؤيته للعيش والوحود والثقافة، وكذلك للنقد
والنظرية، إلى ما يمكن أن أطلق عليه «مربّع الهويّة» الذي يتحكّم بطريقة وسواسيّة
بالتفكير بطبيعة علاقة الناقد العربي بمصادره ومراجعه وملهميه في النظرية النقدية
الغربية. وبغض النظر عن كون سؤال الهويّة مشروعاً في هذه الحالة أو غير مشروع، فإن
سعيد يمثّل نموذجاً لمثقف العالم الثالث المرتحل إلى ديار المركز الغربي،
والمتكوّن أساساً في حضن الثقافة الغربية، وفي إطار الأسئلة التي تسألها هذه
الثقافة لنفسها. لقد كانت عناصر تكوين إدوارد أنغلوساكسونية في الأساس، ومن ثمّ
غربية في العموم، حتى قبل أن يشدّ الرحال ويذهب وهو صبيٌّ إلى الولايات المتحدة
ليستكمل دراسته ما قبل الجامعية، ومن ثمّ الجامعية، في الجامعات الأميركية... أي
أنه تلقى تعليماً كولونيالياً، مثله مثل الكثير من مثقفي العالم الثالث الذين كانت
بلادهم مستعمرة قبل أن تنال استقلالاتها في النصف الثاني من القرن العشرين.
لكن العامل
الحاسم في تجربة سعيد هو أن بلاده لم تنل استقلالها، بل إنها استلبت وأُعطيت لأناس
آخرين. ضاعت فلسطين عام 1948 فوجد إدوارد ومئات الآلاف من شعبه أنفسهم لاجئين
مشتتين في جهات الأرض الأربع. ولذلك فإن هذا الناقد والمنظّر الكبير المؤثر بعمق
في ثقافة القرن العشرين استعاد جذوره بعد صدمة هزيمة 1967، كما ينوّه هو في أكثر
من موضع في كتاباته، وكذلك في سيرته التي كتبها في عنوان «خارج المكان». وقد وجّه
هذا الوعيُ المستعاد بالهويّة المركّبة عملَ إدوارد الأساس منذ كتابه «بدايات»
(1975)، وصولاً إلى آخر مقالة كتبها قبل وفاته (2003).
إنه، على
رغم عدائه شديد الوضوح لما يسميه «سياسات الهويّة»، ومناداته بضرورة الإيمان
بهُجنة الهويّات (ومن ثمّ الثقافات) وعدم ثباتها، لا يُغفلُ عامل الانتساب إلى
قضايا المغلوبين، أي إلى القضايا الإنسانية الكبرى مثل القضية الفلسطينية. يوجه
سعيد ضربة قاصمة إلى سياسات الهويّة التي تنظر إلى الهويّات والانحيازات العمياء،
الطائفية أو المذهبية أو القومية أو الوطنية أو الأيديولوجية، بوصفها مضادة لطبيعة
التفكير الحرّ، الدنيويِّ الطابع المتجذّر في الوعي النقدي الحديث.
عناصر
تكوينيّة
صحيحٌ أن
العناصر التكوينيّة الأساسية في ثقافة إدوارد سعيد تنتمي إلى الغرب، لكن عمله
يمثّل نقضاً للمركزية الغربية من داخلها، وكشفاً لتحيزات هذه المركزية العرقيّة
والثقافية، وحتى الدينية. وما كان لهذه الرؤية الثقافية والمعرفية النقيضة أن
تتشكّل في عمل إدوارد لو أنه لم يكن آتياً من الشرق والعالم الثالث، وفلسطين
تحديداً التي وجهّت عمله وكانت الشاغل الأساس له على صعيد الوعي والنظرية
والمقاربة النقدية للنص والعالم. ولعل انتسابه الحرّ إلى قضية فلسطين، وكذلك
تحدّره الذي لا يدَ له فيه من أرض فلسطين، هو الذي جعله يقيم في عمله صلات ثقافية
ومعرفية وحميميّة مع عدد من المفكرين والفلاسفة والنقاد الغربيين الذين سـلّـطوا
الـضوء على جذور الهـيمنة وآليات عـملها، وكذلك على آليات عمل الخطاب وطبيعته
الإكراهيّة.
عمل إدوارد
سعيد، بدءاً من «بدايات» و «الاستشراق» (1978)، مروراً بـ «قضية فلسطين» (1979) و
«تغطية الإسلام» (1981)، وصولاً إلى «الثقافة والإمبريالية» (1993) و «تمثيلات
المثقف» (1994) و«الأنسنة والنقد الديموقراطي» (2004)، على توجيه النقد والنظرية
نحو اعتناق رؤية إنسانوية humanistic تتجاوز المركزية الغربية. وقد فعل ذلك من داخل
الثقافة الغربية نفسها، مستخدماً الميراث الإنسانوي الغربي وأفكار عصر التنوير
للكشف عن انسجان الخطابات الفلسفية والفكرية والثقافية والأدبية الغربية في وهم
التفوق وسموّ الذات الغربية وتسنّمها قمة هرم المعرفة والتقدم البشريين.
من هنا
يبدو سعيد، العربي - الفلسطيني - الأميركي، أستاذ الأدب الإنكليزي والأدب المقارن
في جامعة كولومبيا، وناقد الموسيقى البارز على صفحات بعض أرفع المجلات الثقافية
الأميركية، وعازف البيانو الهاوي، والمنافح الصلب عن قضية الفلسطينيين وحقوقهم على
صفحات الصحف وعلى شاشات المحطات التلفزيونية الكبرى، مقيماً «بين ثقافتين»، كما
عبّر هو نفسه في مقالة شهيرة له. إنه نموذج مبدع وخلاّق لما تَصوَّره عن المثقف
الهاوي، غير المتخصص، والمنتمي الى قضايا المستضعفين في الأرض، المثقف الذي يقول
الحقيقة للسلطة ولا يسمح للسلطات السياسية أو الشركات ذات المصالح أن تستخدم
خبرته. كما أنه نموذجٌ لتمازج الهويّات للوصول إلى هويّة مهجّنة لا تعترف بالحدود
الضيّقة التي تفصل بسيف بتّار بين البشر على أساس من العرق أو اللون أو الدين أو
الثقافة أو الأيديولوجيا.
صحيحٌ أن
إدوارد يعكس، من خلال اهتمامه وتركيزه على الأعمال والكلاسيكيات الكبرى في الثقافة
الغربية، رؤيةَ الغرب لذاته بوصـفها الأرقى في تاريخ الفكر والأدب البشـريين، لكنه
في الحقيقة لا يُغفِل الأعمال الأدبية الطالعة في ثقافات العالم الثالث، أو
الأفكار التي يطرحها مثقفو العالم الثالث حول الغرب وعلاقته بالشعوب المستعمَرة.
إن كتابه «الثقـافة والإمـبريالية» يحتشد بالأمثلة والتحليلات العميقة للآثار
الشعرية والروائية والأفكار التي ساهم بها مثـقفون أفارقة وآسيويون وعرب، مقدماً
لنا قراءة طباقية لرؤية المستعمِر والمستعمَر في آن.