مذكرات متسلل: 2/ - نهر ايفروس



    كانت الساعة تشير إلى الثانية صباحا حين  أوقف السائق حافلته وتلفظ عبر الميكرفون الصغير بكلمات توحي بنهاية مسار الرحلة ، لأشاهد ساعتها مدينة صغيرة تشع جمالا و بهاء ،شعور غريب خالجني منذ إطلالتي الأولى عليها ، وصمت ثقيل يخترق جدران المنازل السكنية الدافئة، ويحاصر الشوارع المبللة بماء المطر ويتسلل  بين الأحلام الطفولية والأمنيات الهرمة ،  ليفرض في النهاية هيبته على وجوه المهاجرين  البؤساء ،  فجأة أحسست بيد خفيفة تربت على كتفي النحيل ،استدرت بسرعة البرق ، كدت اصطدم بوجه" الكردي" الحجري وقد علت عليه علامات الغضب والتجهم والنرفزة ، نهاني عن إطالة الوقوف والتأمل في الأشياء والأشخاص والأمكنة، كما طلب مني اللحاق به على عجل نحو فندق مجاور لمحطة الحافلات  ، حيث كانت ترتكن قبالته سيارة بيضاء كبيرة ذات زجاج قاتم اللون من نوع كونغو ، يجلس في مقدمتها شاب يافع ،يداعب بأنامل يده اليسرى سيجارة ملتهبة ،بينما تنفض شفتيه الداكنتين أكواما من الدخان المتراقص في الهواء ، ظل يحدق بي في صمت مريب  ويراقب خطواتي المتثاقلة ،حين دنوت من السيارة فتح الباب الخلفي وانبعث صوت خافت يحثني على الإسراع بالصعود ،كان بانتظاري أزيد من عشرين مهاجرا ( مغاربة،جزائريين ،سوريين ،تونسيين ،فلسطينيين  أما الأكراد فكانوا من النساء والأطفال والرجال ) ،شاركتهم زيف ذلك الأمل الوردي بابتسامة منكسرة بلهاء ،وشاطروني  حياتي المالحة بمفردات اللغة الصامتة ، تبا لأولئك الذين سرتهم معاناتي المنفية ، وتبا لأولئك الذين سطروا قدري بخطوط حمراء .  

        انطلقت السيارة مسرعة بنا باتجاه المروج الخضراء ذات الطرق الوعرة ، من الصعب أن أجد لمؤخرتي و ظهري مكانا ضيقا لاستراحة ولو مؤقتة بين هذه الأجساد الآدمية المزدحمة والحقائب الظهرية المنتفخة  ،آه.. كم أرهقني السفر  وتعبت  قدماي من التسمر واقفا في تلك السيارة المهرولة ، و تجمد عقلي أمام مشهد إنساني صادم  ، ملاكين صغيرين  يرتجفان من شدة البرد القارس ، حاولت الأم أن تضم فتاتها البريئة إلى  دفء أحضانها المقدسة ، واكتفى الأب ذو السحنة البدوية الأصيلة بخلع سترته الجلدية، ثم رماها  بهدوء على ظهر أبنه الوسيم ، مخاطبا إياه بلغة كردية لم أستطع فك شفراتها، بدا وكأنه يشجعه على الصمود في وجه رماح الطبيعة وخناجرها المسمومة ، تأثرت  كثيرا ببكاء رضيع، لم تستطع أمه "القاصرة " تهدئته ، أما أباه فقد استسلم للضياع والتيه وجرفته أمواج اللامبالاة إلى التفكير في عالم ينتظره وراء نهر ايفروس ....   
   توقفت السيارة لتلفظ القوم من أحشائها ، شبه مترنحين نتيجة الازدحام الخانق ورائحة البنزين الكريهة  ، حينئذ صادفنا  شابين قرويين _تركيين _، كانا بانتظارنا وقد وكلت إليهما مهمة مرافقتنا لعبور المروج الخضراء صوب نهر ايفروس الفاصل بين تركيا واليونان ، عادت السيارة أدراجها بسرعة  ،فالمكان كما أخبرونا منطقة عسكرية محظورة  التجوال على المدنيين ،كانت تعليمات الأتراك لنا واضحة جدا ، " إقفال الهواتف ، كما يمنع الكلام وإشعال السجائر " ، كانوا يهرولون في خطواتهم الحذرة والمدروسة ، سكون الليل وضوء القمر الباهت و تردد أنفاس المهاجرين و دبيب خطواتهم المتعثرة ،كل تلك الأشياء أضفت على المشهد المخملي روح الطبيعة المتوحشة والممزوجة بالدهشة الإنسانية الأولى ،توقفنا عند ضفاف واد صغير هادئ ، لنفخ زورقين مطاطيين استعدادا لعبور أولي ، كانت أضواء شرطة الحدود التركية (البرية والبحرية ) ،تحرس المكان بشكل دقيق وتتحسس الحركات البطيئة والأصوات الخفية ،و لقد أثار بكاء الرضيع طوال الليل جلبة كبيرة عمت الأرجاء ، ...هل كان يبكي من شدة البرد... أم الجوع... أم الألم ..لا أحد يدري السبب، كان من السهل رؤية ملامح التذمر والاستياء والغضب  بادية على محيا الجميع ، عبرنا الواد و بدت الأبصار حينها تشرئب مثلما هي القلوب متلهفة لرؤية نهر ايفروس وملاقاته ... 
 ما من شك أن بكاء الرضيع قد أثار انتباه من يحرسون هذا العراء الفسيح ، فقد سارعوا إلى تثبيت مصابيحهم الكبيرة باتجاه صوت النحيب وأناروا المكان الشاسع ، كان الجميع حينها مستلق على المروج  الخضراء  المليئة بالأوحال والضفادع  و الجداجد ، انقطعت  الأنفاس للحظات قصيرة ، وتملكني شعور بالفشل  والانهيار والغضب  ، فجأة أنطفأ الضوء .....تهامس الجميع يستفسرون بعضهم عن معنى تلك الإشارة الضوئية ، وبعيون جاحظة  توسلوا من المرأة المحطمة أن تضع حدا لنحيب رضيعها ،  (...) ما هي إلا لحظات قليلة حتى سمعنا وقع أقدام شرطة الحدود متجهة نحونا، كانت أضواء مصابيحهم الزرقاء تتسارع لاستكشاف المكان ،ثم بدأ الفرار الأكبر تاركين ورائنا قوارب الأمل ونهر ايفروس...وبلاد الإغريق. 
 شرعت في الركض باتجاه المجهول مثل أرنب بري مذعور ، أركض وألهث وأتذمر من سوء الطالع ،ها قد انجلى الليل ولاح نور الصباح الباكر ، خيم ضباب كثيف على المروج الشاسعة  ساعدني  ذلك في الهروب والاختفاء، كنت ساعتها فقدت  (فردة) حذائي الأيمن وسط الوحول كما تلطخت ملابسي بالطين والتراب ،أتذكر أني سمعت نداءا حزينا ممزوجا بالوهن " خويا.....خويا.....ارحم باباك أوقف "،توقفت عن الركض واستدرت إلى مصدر النداء ، كان مهاجرا جزائريا في مقتبل العمر  منهار القوى ، استمر يلوح لي بيديه المرتجفتين ،و كادت روحه أن تخرج من جسده الضئيل ، وجه أصفر شاحب وعينان غائرتان و شفة سفلى متورمة  ، انتظرته حتى دنا مني ،  فخاطبته بنبرة صارمة : 
علينا أن نبتعد أكثر من منطقة الخطر 
قاطعتني كلماته المريرة :
لا أحد يهرب من شرطة الحدود ، أتدري أنك تجري كالغزال الجريح ومن دون تحديد الوجهة.....هذا سيئ بالنسبة لمهاجر غير شرعي مثلك 
 أجبته بسخرية لاذعة هادئة :
هل تريدني أن ازحف كالسلحفاة حتى ينقضوا علي ويشبعوني ضربا   
توقف كل منا عن الكلام برهة قصيرة ،قبل أن أردف:  
هل تلمح تلك الثلة البعيدة أنها مكان مناسب لنا للاختباء و تهدئة الأنفاس أليس كذلك  ، 

أذعن لرأيي ، كانت ثلة  خضراء جميلة تعتلي قرية صغيرة ، لما بلغنا قمتها المسطحة وجدنا  كهفا حجريا ،غمرتني فرحة عارمة ،فالمطر كان على وشك الهطول و جسدي بدأ يتمزق من التعب و العياء ، إنها فرصة مناسبة لكي انفض مخيلتي من الصور السوداء ، استلقينا معا داخل جوف الكهف الدافئ واستسلمنا لنوم عميق.    
   استيقظت على نباح كلب ضال ،" تفو..على الكلاب " نظرت إلى ساعتي اليدوية كانت العقارب تشير إلى الحادية عشر صباحا ، حدقت مليا في جسد رفيقي الملتصق بالتراب ،كان غائبا حينها عن ثرثرة الحياة وضجيج أمكنتها المتناسلة ، أيكون قد صادف حلما أنثويا جميلا، يمضي بعشق ورائه  في طريق خال من الأشواك والأنهار والتأشيرة و"الحراكة" ، أفقته من سباته الهانئ ، فرمقني بنظرة فارغة ، "صباح الخير الماروكي"  ،"صباح الخير الدزايري نوض نتحركوا لمدينة باش نفطروا " ، تبددت الغيوم في زرقة السماء ،وأحاطت الشمس بحرارتها المنخفضة رطوبة الأمكنة، بدلت ثيابي المبللة والمتسخة بالطين  وارتديت حذاءا رياضيا جديدا وانطلقنا معا نفتش عن الحياة، في طريقنا نحو المدينة (ايزين كيبرا ) أخرج رفيقي من جيبه سيجارة فاخرة وأشعلها بتلذذ ، سحب نفسا عميقا قبل أن ينفث الدخان إلى الخارج ، أطبق الصمت على طريقنا ، تخيلته يستحضر في ذهنه ما جرى، القدر ليس لعبة شطرنج تخطه القواعد البشرية ،أو معادلة رياضية يحدها المنطق العقلي ، شيء مختلف تماما  ،تخيلته يقول لي  " لم يكن الرضيع ملاكا بل شيطانا.. لقد أفسد نحيبه  الرحلة برمتها " ، هي السماء تحرس.. هي الأرض تبلع.. هو البحر يلفظ ..هم البشر ملائكة وشياطين  . 
عدنا إلى المدينة و تناولنا فطورا ساخنا داخل مقهى شعبي ،  تعارفنا ببرودة مملة كان اسمه "عبد القادر و ينحدر من مدينة وهران  ،تحدثنا كثيرا في كل شيء واللاشيء ،تصنعنا الضحكات والابتسامات والقهقهات ، في النهاية عاد الصمت ليغتالنا من جديد ، كنت أبصق على الأرض كلما تذكرت ذكرياتي الحزينة في وطني ، ملامح بشرية تزداد قبحا مع مر السنين ، غراب أسود مشئوم  ظل يلاحقني من سماء الدار البيضاء إلى جبال أوروبا الباردة والمكسوة بالثلوج ،  لمحته ينعق بغباء في سماء اسطنبول الملبدة بالسحب السوداء ، شتمته في نفسي  وأنا أحدق في عينيه  " اغرب عن سمائي، أيها اللعين "،فجأة  رن هاتفي أجبت بتلهف  : - من معي ؟  كان صوت "الحراك"  خشنا وغليظا ، ظل يعتذر ويبرر ويلقي التعليمات في آن واحد ، لم أنبس ببنت شفة فالإصغاء هو الخيار الوحيد المتاح لي أمام ديكتاتورية "الحراكة " ،و قبل أن ينهي كلامه المعسول  قال "مفهوم سيد حمدي ؟" ،طبعا مفهوم وواضح ، لقد طالت أذناي واستبد الغباء بعقلي  صار لي ذيل ، المهاجر كالحمار  كلامها جاهزان للحرث والانصياع للأوامر، سألني عبد القادر "الجزائري" بفضول ،  
-ماذا هناك  ؟ 
- انه الحراك ،أخبرني أننا سنقوم بهجرة سرية أخرى الليلة  .  
-متى ؟
- لست أدري ؟المهم  يجب ألا نغادر هذا المقهى حتى  ساعة الغروب ، ثم نتجه إلى محطة الحافلات حيث سيكون "الكردي" بانتظارنا . 
- ماذا عن أخبار المهاجرين "الحراكة" ،هل أعتقل أحد منهم ؟ 
-  جميعهم بخير .  
ظللت أفكر في الوحول  والوديان وشرطة الحدود ونحيب الرضيع ،جبت بعيناي أرجاء المقهى ، صورة أتاتورك معلقة على الجدار ، اقتربت منا نادلة مهذبة كانت متوسطة السن ، فاتنة الجمال ، قالت لي  بضعة كلمات مبهمة وسريعة وهي تشير بسبابتها اليمنى إلى صورة الرجل الذي بنى تركيا الحديثة ، قابلتها بابتسامة عريضة  ارتسمت على شفتي ورحت أردد لها "أتاتورك....أتاتورك" ،لكن فضول عبد القادر حطم هدوئي ،و زلزل صمت الحواس بعقلي ، يريد أن يعرف كل شيء ، هوية الرجل المعلق بالجدار، كلمات النادلة الغامضة ، انه تجسيد للإنسان المهاجر البريء ، يسأل دائما بفضول غريب عن الأشياء التي تقع على الأرض ،والأشياء التي لم تسقط بعد ،عن الألوان البعيدة والمتجانسة والموسيقى الكئيبة والحكايات التافهة والأشخاص البسطاء ،انه فضول أنثوي محض يعكس حاجتنا الملحة للنسيان والعزلة ، رغم ذلك فأنا وعبد القادر نتشابه كثيرا ،  كل  واحد منا فر من وطن لا يعيش فيه الحب  ،  والتقينا صدفة في السهول العارية ،اكتشفت في المقهى أن العقل البشري يبطئ الزمن ، ويتحكم  بطريقة ساحرة  في اللحظات الجميلة ، تروقني النادلة كثيرا ، نظرتها العاشقة ، ضحكتها البريئة، حركات يديها وأصابعها المثيرة، حذائها الأحمر ذو الكعب المنخفض، جسدها الممشوق، تخيلتها ترقص بجنون على إيقاع موسيقى كلاسيكية ، تمسك بيدي تعلمني كيف أرقص ،كيف أبكي ،كيف أضحك ،كيف أموت ، كيف أحيا ، كيف أعشق ، تخيلتها تطير بي إلى حيث تشاء ،مجرد تخيلات مكبوتة تقودني الى اكتشاف ذاك الجسد الحر ، سألت نفسي "هل أنا حقا إنسان حي ؟ " ، دخل شرطيان إلى المقهى  يتفحصون المكان  لكن نظراتهم الثاقبة استقرت علينا ،  تقدموا نحونا بثبات وثقة ، وضعت  كفي  على فمي وأنا أتثاءب  ، همست لعبد القادر  "ابق هادئا ولا تتكلم " ، وقف الشرطي السمين أمامنا مبتسما ، ألقى علينا التحية  ثم طلب رؤية جواز سفرنا ، أخرجت جوازي الأخضر من جيب معطفي ، تسلمه مني بطريقة لبقة ومحترمة بدأ يطلع على معلوماتي الشخصية ، حدق مليا في صورتي  الفوتوغرافية ،ابتسم.. و هو يعيد لي الجواز قبل أن يدير وجهه نحو عبد القادر ، الشرطي الأخر كان طويل القامة و صامتا ، طلته المهيبة سارعت من نبضات قلبي  ، لكنني تصنعت الهدوء أمامه ورشفت ما تبقى من القهوة ،لحظة مغادرتهم تنفس كلانا  الصعداء أخرج عبد القادر عقب سيجارة من جيب قميصه ،أشعلها وهو يتمتم :" الحمد لله والشكر لله" ، لو أنهم فتشوا حقائبنا الصغيرة لوجدوا ملابسنا مبللة و ملطخة بالطين و التراب ، سؤال واحد سيدمر بقايا الأمل والحياة فينا ، لقد اختفوا عن أنظارنا وهذا فأل خير .  
  فكرت في نفسي :ماذا تعني كلمة "ايفروس" ،  نهر التماسيح المتوحشة ، خاطف الأرواح الضعيفة ، الماكر الصامت ، ربما يكون إلها يونانيا قديما ،يجسد المهاجرون الغير شرعيين في كل ليلة أسطورته الغابرة ، الأسيويون والأوربيون الشرقيون والعرب الهائمون والأفارقة السود ، ،الجميع يحجون إليه بسبب الفقر والاضطهاد والحروب و جاهلية القبيلة ،غير أن جسد ايفروس لا يعبره سوى البؤساء المباركون و الأشقياء المحظوظون ، عندما شارفت الشمس على الغروب غادرنا المقهى باتجاه محطة الحافلات ، اتكأنا  جنبا إلى جنب على حافة جدار بائس  ننتظر قدوم الكردي ، قال لي عبد القادر أن الأتراك يحترمون نسائهم ويوقرونهم ويتعاملون معهن بلطف كبير ، الأتراك يدركون قيمة "الأنثى" في مجتمعهم ،لقد تركت نادلة المقهى من غير وداع ، وابتسامة رقيقة رغم طيبتها الشديدة ، وأخيرا ظهرت السيارة البيضاء المألوفة ، هرولنا صوبها بجنون أعمى ،فتحنا بابها الخلفي وصعدنا ،كان الكردي يجلس بجوار السائق الشاب الهادئ ، يتبادلان القهقهات تارة والضحكات البلهاء تارة أخرى، غير مكترثين بوجودنا المادي، يبدوان  أنهما في غاية الثمالة ،شردت بذهني قليلا في المجهول المنتظر ،وقلت "مرحبا بمشيئة الله " ، انطلقت بنا السيارة مسرعة بين الأزقة الضيقة كان السائق ماهرا في قيادة سيارته ، توقف فجأة أمام منزل عتيق، خرج السائق والكردي مترنحين ،فتحوا  لنا الباب الخلفي ، خرجنا على عجل نتبع خطوات الكردي إلى وسط  ذلك المنزل الفسيح  والمظلم ،كانت أعيننا مشدوهة جدا ،أخرجت هاتفي النقال وبدأت أضيء المكان من حولي ،تفحصته ببصري صعودا وهبوطا ،وأثناء بلوغنا باحة المنزل سمعنا أصوات بشرية خافتة تنبعث من غرفة مضيئة بالشموع ،تعثر عبد القادر في مشيته مرارا قبل أن يسقط مغشيا  ، كان قد أصيب بدوار شديد وتقيئ وشج رأسه من الأمام ،قطرات دماء قليلة تنزف على ثيابه  ، كان صوت اٍرتطام رأسه بالأرض مدويا ومسموعا ، صرخت بأعلى صوتي "والخوت..اجوا عاونونا ....السيد راه كيموت "تفوه الكردي أيضا بكلمات غريبة تحمل  نبرة  إنسانية ، هرع عدد من الأشخاص إلينا مسرعين ، حملوه بأيديهم إلى داخل الغرفة المضيئة ، ،سألني شاب جزائري  : 
خويا، السيد هذا عربي..
من الجزائر   
أش وقع ليه.. ، جاتو الدوخة وطاح .
وفورا أخرج الشاب من حقيبته اليدوية زجاجة عطر فرنسي ، سارع إلى رش بخات منها على أنف عبد القادر ،تناثرت أسئلة  المهاجرين على رأسي ، شخص سوري يسألني هل أكل شيئا اليوم ؟ والأخر يتفحص عينيه يفتش في العروق الحمراء عن  سوابق لداء مزمن ؟ وثالث يضع كفه على جبهته الساخنة ،قبل أن يعزي سبب غيبوبته المؤقتة إلى  شمس  أبريل   والتعب وقلة النوم ، استفاق عبد القادر فجأة ،شارد الذهن ، يحملق في كل اتجاه ، لم ينتبه  لوجودنا من حوله ،ظل صامتا برهة من الوقت ، مدت له امرأة كردية تفاحة خضراء وكوب حليب ،حينها نصحه مراهق جزائري أن يلتهم التفاحة أولا، مهاجر  فلسطيني  نصحه بدوره شرب كوب الحليب قبل أكل التفاحة ، قلت في نفسي هذا هو الجدل البيزنطي العقيم  ، قضم عبد القادر التفاحة بخجل  ورشف من الكوب وهو يبتسم غير آبه بما قيل ،تعالت ضحكات الجميع حتى تجاوزت كل الحدود المصطنعة ،  لتنغرس  مثل بسلم روحي في القلوب المكلومة ،  طفت بنظري أرجاء المكان  المزدحم بأجساد المهاجرين ذاتها ، والمحاصر بالظلال والجنون والهمسات ،قلت في نفسي لا أحد يوقد نار الأرض سوى امرأة واقعية  وبسيطة  و مرهفة الإحساس كتلك الأم التي تضم رضيعها إلى صدرها ، لقد اختفى الكردي عن أبصارنا ، ربما يكون قد انزوى بنفسه في غرفة  غير معتمة ،يرتشف بصمت كؤوس خمر معتق رفقة راقصة روسية ، هذه تركيا تدر مالا وفيرا من جيوب المهاجرين الغير شرعيين ، المطارات والمقاهي و والمطاعم والحافلات.. ، يجب على المرء أن ينظر إلى الحياة  بعيون جريئة . 
نصف  هؤلاء المهاجرين نائمين على أرضية الغرفة بدون غطاء، والنصف الأخر متكئا على الحائط شارد الذهن ، أصغيت  لصوت زخات المطر  ،وصوت هدوء الليل ، تعدت الساعة منتصف الليل بدقائق معدودة ،تأملت وجه صديقي عبد القادر  وجدته يغط في نوم عميق ، أحسست  تجاهه بندم  يقتلع أعماقي ، حين تذكرت صوته الحزين في المروج الخضراء، دلفت  إلى خارج الغرفة الكئيبة  قاصدا باحة المنزل، بعدما سحبت سيجارة من جيب قميص رفيقي  عبد القادر، و دسستها في فمي وأشعلتها بتلذذ ،سحبت نفسا عميقا ،  ونثرت الدخان في الهواء الرطب ، اقترب مني مهاجر مغربي بفضول ، قال متنهدا : 
ليلتنا  هذه ممطرة  جدا... ستكون المروج بلا شك مليئة بالبرك المائية والوحول.
لا تحزن ، لاشيء في الحياة يستحق حزنك العميق  
على فكرة ،أم الرضيع وضعت له دواء منوما في الحليب  ....
   الحمد لله ،  
 عرفت من خلال لهجتك أنك مغربي  
نعم ،بالضبط من الجنوب 
أنا من الشرق،  من مدينة وجدة ،اسمي  كريم 
تشرفنا أخي كريم ، اسمي عبد الهادي
  مرحبا بك أخي عبد الهادي.   
توقفنا عن ارتجال الكلام ، واستسلمنا لإغراء سكون الليل ، أطفأت السيجارة في المنفضة  ، ثم رفعت رأسي  للسماء وتنهدت  ، توارت النجوم  بين الغيوم الكثيفة ، اشتقت باكيا لرؤية فراشة ملونة تائهة ، وأغمضت عيناي ليتلقفني الحنين إلى وطن عجزت عن نسيانه ولو لحظة ، رأيت جثتي تتساقط أمامي،لم أستطع أن اشتري لها نعشا يتيما ،لم أستطع أن أقم لها مراسيم عزاء واحد ، صورة جثة طفولتي تؤرقني ;تكاد لا تفارقني أبدا ،  تركت لتتعفن ببطء في قاعات المدارس الحكومية والأزقة الترابية والشوارع المتسخة بالجريمة وبين الأشجار المحتضرة على الجبال الأمازيغية العارية ،أما جثت أصدقائي القدامى فلا يزال المحيط  الأطلسي يحملها لي بين ذراعيه كلما التقيت به صدفة ، أهرب من جحيم إلى جحيم ، ومن عذاب إلى عذاب ..وشفاهي المنكسرة ما فتئت تجر ثقل ابتسامة صادقة خانتها مجاديف الحياة.    
     
 سمعنا طرقات قوية وسريعة على باب المنزل ، أيقظت الجميع فزعا من نومهم  ، فجأة دخل الكردي علينا  متوترا رفقة الشابين التركيين وهو يتحدث بعصبية بالغة عبر هاتفه الجوال مع شخص "ما " وعيناه تقدحان شررا ،ساد المكان جو من الارتباك الرهيب ، لا أحد يدري ماذا يجري في الخارج ، جمعنا أغراضنا على عجل ، سألت احد الأتراك بالانجليزية هل الأمور على ما يرام ،فأجاب بالإيجاب ، عندما أنهى الكردي مكالمته الهاتفية ، أشاح ببصره يمسح المكان ويطمئن على ملامحنا المهزومة، ثم أشار لنا بيده اليمنى  كي نغادر المنزل فورا ونصعد السيارة ، كانت الساعة تشير إلى الثالثة صباحا حين انطلقت المركبة مسرعة باتجاه المروج قاطعة مسافات طويلة، شعرت أنهم سلكوا طريقا آخر قبل أن يتوقفوا وسط الأحراش النائية ، نزلنا نستطلع الفضاء الجديد ، استفز ضوء القمر وخرير مياه الجداول العذب  ونسيم الليل مشاعري الدافئة ،فجأة انقسم المهاجرون حسب عدد القوارب المطاطية الى ثلاث مجموعات ، هكذا وجدت نفسي في النهاية مع العشيرة الكردية ( أمرآتين ورجلين وطفلين ورضيع )  ،كان  كل مهاجر شاب ينأى بنفسه مشاركة قاربنا ، قلت في نفسي نهر ايفروس  إذا ثار غضبه لا يفرق بين شاب ورضيع وأنثى ورجل ،  رأيت الشر الذي لا يفنى في  عيون المهاجرين الشباب ، رأيت ثقافة الاستثناء الذكورية تتقمص ملامح وجوههم ، مشينا على الأقدام مسافات طويلة  حتى انبلج الصبح ، لحظتها لف ضباب كثيف المروج الشاسعة وحجب عنا الرؤية إلى الأمام ، وحين بلغنا نهر ايفروس شاهدت قاربين مكتظين بالشباب قد انطلقا في رحلة العبور الغير الشرعية إلى بلاد الإغريق ، قبل أن يبتلعهما الضباب ويختفيا عن بصري ، صعدت إلى القارب وانتظرت ركوب  البقية ، أخدت مجدافا وسلمت الأخر  لرجل مهاجر ، خاطبته بهدوء  واتزان : 
أجدف آنت من جهة اليمين ، وأنا من جهة اليسار  
تلعثم كثيرا قبل أن يرد بصوت أنثوي خجل وخائف: 
سيدي لا أعرف كيف أجدف  
صرخت عليه بأعلى صوتي :
أنا أيضا لا أعرف ، هيا أعطي المجداف لصديقك بسرعة  
أخد صديقه المجداف  منه ،كان وجهه محمرا و متعرقا ، بدأنا نجدف معا في النهر  لكن القارب لم يترنح من مكانه ، بدأ يدور على نفسه بسرعة ، ارتعب الجميع  هلعا وخوفا ،توقفت عن التجديف عندما سمعت أم الرضيع تقول لي بلهجة سورية وهي تبكي "أنت راح تغرقنا...أنت راح تموتنا " ، قلت في نفسي هذه المجنونة لا تفكر إلا في الموت والغرق ، طلبت من زوجها أن يتوقف هو الأخر ، امتثل للأمر فورا ، وأثناء ذلك بدأ القارب يتحرك مائلا إلى الضفة الأخرى بفعل تأثير حركة مجرى النهر الجارف ، عدت أجدف وحدي  و ببطيء، حتى لامست  مقدمة المركب أرض اليونان  ، عندئذ أمسكت بيدي اليمنى جذع شجرة كان ممدا على ضفة نهر ايفروس ، انتظرت في القارب حتى غادره الجميع سالما معافى،لألقي نظرة أخيرة على النهر الجارف قبل أن تطأ قدماي تراب الإغريق.       
                    كتبها : عبد الهادي حمدي    

الجزء الأول مذكرات متسلل / تركيا المعبر


قالب تدوينة تصميم بلوجرام © 2014