يعد موضوع الهجرة السرية واسع الانتشار في كل الأنحاء . أثناء سفري في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ، لم ألتق تقريبا بشاب لم يحلم بالرحيل عن بلده ( بلدها ) آملا في حياة أفضل ، مسيرة مهنية أفضل ، في الأمن ، أو فقط في مال أكثر حتى يساعدوا عائلاتهم أو حتى يتمكنوا من شراء سيارة أو لتحقيق أي شئ من تلك الأشياء التي يطمح إليها الإنسان . هي آمال ( أمنيات ) مشروعة ، فالقتال لأجل أهدافنا الشخصية ، ولأجل حياة مريحة ، ناجحة ومرضية قدر الإمكان ، ليس أمرا مرتبط بجنسية معينة أو بعرق أو لون . إنما المفاجئ جدا في الأمر هو سماع ما يقوله الناس في هذا الموضوع . وددت بالتالي أن أسجل بعضا من ذلك على أمل أن ينفتح الناس أكثر في الحديث عن هذا الموضوع .
لن أستعمل هنا معطيات
إحصائية ، إنما سأحكي عن تجربتي مع الهجرة في أوروبا . وأنا على يقين بأن هؤلاء
الذين عاشوا تجربة الهجرة سيوافقونني فيما أقول .
يرعبني واقع أن كل من
ألتقي بهم تقريبا يظهرون الجانب المضيء
للعيش في " الغرب " . أنا لن أذهب بعيدا لأقول بأن أوروبا عنصرية ، فبعض
الناس هناك متعاونون وواعون بالصعوبات التي يواجهها المهاجر ، إنما من الأكيد أن
" الغرب " ليس مكانا لطيفا حيث يمكن لشخص بالغ الانتقال إليه وبدء حياة
جديدة فيه . لنستحضر أن الكثير من البلدان
الأوروبية لا تقبل الشهادات ( الدبلومات ) الممنوحة من بلدان العالم الثالث (
الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من هذه البلدان ) . لذا كن مستعدا لتبدأ من نقطة الصفر
حتى تحصل على المال ، وتحلى بالصبر حتى تستطيع تحصيله من جديد – على الأقل هذه حال
جزء من حملة الشواهد ( الدبلومات ) - .
أما الخيار الثاني فهو أن تقبل الاشتغال في عمل
زهيد الأجر لا يتناسب ومستواك الدراسي . أما إذا حالفك الحظ وكنت ملما بلغة بلدك
الجديد ، فاحرص على أن تتحدث بلغات أخرى ، وإلا فإنك ستصرف سنواتك الأولى هناك في
الحضور إلى مدارس اللغة ، وهي باهظة التكاليف .
تواجه كل البلدان
الأوروبية موجة متزايدة من الهجرة ، وهو ما جعل حتى تلك المهن الزهيدة الأجر غير
متوافرة بسهولة . وهي مهن على بساطتها تتطلب كذلك الإلمام ببعض المهارات اللغوية .
المهاجرون هم من يزاولون هذه المهن بشكل
يبدو حصرا ، وهو ما يجعل ظروف العمل بها شبيها بتلك الموجودة في البلد الأصلي . والمؤسف
أن أول ما يسألك عنه الأوروبي هي الشواهد ( الدبلومات ) والتوصيات . وقطعا فإن ما
تحتاجه لحياة أفضل هو اللغة تم العمل حتى تقدر على دفع مصاريفك .
لنفترض أنك محظوظ
، بأن هاجرت عن طريق عرض عمل أو عبر دعم مالي من العائلة لعبور المراحل
الأولى . يبقى أمامك أسلوب الحياة والعقلية الأوربيين لتتآلف معهما .
سأعمم فأقول بأنه كلما توجهت نحو الشمال كلما أضحت
الحياة هادئة . يبدو الهدوء شيئا إيجابيا ، الأمن والاستقرار . ولكنه كذلك مرادف
للصمت ، منعزل ووحيد . الشوارع لا تعج بالناس ، ولن تلتقي أحدا في الشوارع يوم
الأحد . قد يكون الأوروبيون مهذبين ، وسيدعونك تعيش حياتك ، لكنهم قطعا ليسوا
منفتحين على عقد صداقات جديدة في سن بالغة – ليس الأمر شبيها بمصر حيث تخرج من
المنزل وتعبر الشارع نحو المقهى لتلتقي بعشرات الأشخاص الذين تعرفهم وتتبادل معهم
أطراف الحديث .
الأوروبيون لطفون في
مقار العمل وأثناء حصص الرياضة ، لكن ليس من السهل عقد صداقات معهم وقضاء
الوقت برفقتهم . فالحياة الخاصة هامة ، وهو ما يعني أنهم في الغالب يقضون الوقت في
المنزل مع أنفسهم ، ينامون باكرا حتى يستيقظوا باكرا ، وقد يحضروا لموعد في المقهى
سبق وحددوه منذ أسبوع. الجو بدوره ليس
عاملا مساعدا ، فالجو خلال الشتاء ولشهور يبدوا رماديا ، وعلى رؤوس الأصابع يمكنك
أن تعد الأيام حيث تطل الشمس ، انعدام النور هو تماما ما يطرحك أرضا .
الشبان هم غالبا من يهاجرون . من 2011 و آلاف من شمال
أفريقيا عبروا جبل طارق أو عبر طريق القوارب إلى لامبيدوزا ، وانتهى بهم الأمر إلى
انتظار الحصول على حق اللجوء السياسي إلى أي بلد ، وهو ما بدا متعذرا وميئوسا منه
. تم إرجاع كثير منهم إلى بلادهم ، بينما
قرر آخرون الاختباء في وضعية غير قانونية ، بلا وثائق ولا إذن عمل .
من ناحية أخرى ، هناك جزء كبير من المهاجرين الشباب
المتزوجين من أوروبيات ( طبعا هناك مهاجرات شابات كذلك ، لكن أقل في الغالب ، من
ناحية لما يفرضه القانون الإسلامي على الزوج الأوروبي من ضرورة التحول إلى الإسلام
.. ، ومن ناحية لأسباب أخرى متعددة . ) . ما يبدوا الشباب العربي غير مستعد له هو
الإحساس بالتوكل التام على الزوجة في كل وأقل خطوة : اللغة ، المال ، القرار ،
العائلة ، الأصدقاء ، والإحساس بالعيش وفق توجيهات لما يجب فعله وما لا يجب . وهذا
يبرره كون الزوجة أدرى منه بهذا البلد .
حتى لو كان الشخص منفتحا ومستعدا لتغيير القواعد التقليدية في الحياة العائلية ،
فإن العلاقة المزدوجة الثقافة يلزمها أن تتعامل مع العديد من المشكلات في الفهم
وما إلى ذلك . وليس مفاجئا أن 80 بالمائة من هذه العلاقات لا تنجح .
أما بقية التحديات الصغيرة التي ستجتازها فهي ، إيجاد صرفة في الحمام ، كيف تنظف نفسك
بورق الحمام ، وستتعلم كيف تجد المتجر " التركي " و " العربي
" لتحصل على بعض الطعام الذي تحبه ، والأهم هو أنك ستتعلم الطبخ إذا ما رغبت
في أن تحصل على طعام شبيه بذاك الذي في الوطن . احترام الوقت ، ومختلف أنظمة النظافة وما إلى ذلك . لكن أذكر بأن
كثيرا من الناس يستخفون بالسنوات الأولى: لا أعرف أحدا لم يواجه آثار الكآبة خلال
هذه السنوات .
الناس مشغولون للأسف بعرض صور لأماكن جميلة زاروها .
وبإخبار العائلة والأصدقاء عن روعة الحياة هناك ، وإعطاء انطباع بأنهم نجحوا في
جعلها حياة أفضل . وهذا ما يغذي هذه المغالطة (الكليشي) في الوطن ( الهجرة نحو
أوروبا قد يعطيك حياة سهلة وأفضل وأغنى ) ، بينما في الواقع تعجز عن معرفة حل لدفع
رسوم التأمين ، الإيجار ، التذاكر والطعام ، ... أو أنك لم تعقد صداقات كثيرة ،
وبأنك تقضي وقتك وحيدا بالبيت ،، ففي النهاية
المطر ليس هو القضية * .
صحيح أن أجرك مرتفع ( إذا كان لك عمل ) لكن المصاريف
كذلك مرتفعة . وأنت تدفع ثمنا غاليا
لرحيلك عن عائلتك و أصدقائك ، وتلزمك
سنوات طويلة من الصبر ومن المحاولات الصعبة للاندماج في الحياة المهنية وفي
المجتمع .
من الأفضل تسمية الأمر بالقرار المصيري في حياة الفرد ،
ذلك الذي تلزمنا إرادة قوية لاتخاذه ،
وبعدها فقط يمكن أن نسميه حلما بحياة أفضل .
بقلم نينا تانسكانين
ترجمة عصام بقسيم