المثل الزهدي، إرادة إضفاء المعنى على الحياة،
الخوف من الفراغ أو النزول لقاع الهاوية،إنه العنصر المضاد للقرار، فالتاريخ
والحضارة والعلم كلها جاءت مثالا لتعود مثالا آخر. ليست الإنطلاقة من اللاشيء، كل
فكرة تنتهي لنظيرتها، والعلم أحد أكبر تجليات المثال الزهدي،إنه تعالي محايث،ربط بانفصال،
ينطلق بشكل منهجي كي تقطع أوصاله الصيرورة، ليتوقف فيستمر. التوقف هو إعادة النظر للاستمرارية،إنها
لعبة المتناقضات التي برعت في حياكتها الميتافزيقا.
يسعى نيتشه إلى استخراج
المحجوب الظاهر،نزع الوضوح عن البديهي في الأفكار،كشف عملية توحيد الأشياء في منطق
ثقافي أقل ما يمكن وصفه بأنه محتال ومراوغ. إن المثال يحاول بطابعه
السمح،المتعالي، الطهراني إلى محو وإقصاء كل العناصر التي تقلق هدوءه وتباته، كما يتخذ مسارات وأشكال
مختلفة: عادة،سلوك،علم،ثقافة،دين،مجتمع،سعادة،حرية،دولة..إنه ربط بتاريخ مبتكر
وثقافة سامية،توضح مسار الإنسان الحياتي.
ربما خنق الإمكانات
الوجودية صادر عن المنطق الحياتي الذي يتخذه المثال الزهدي في كل الأوجه: العلمية،الثقافية،الدينية
وهي الأبعاد التي تشكل ذاتية الإنسان. ففي العلم نجد أن المثال المتعالي اتخذ
العلم التقني سبيلا لتوهيم الإنسان بالسيطرة على الأشياء، إنه تعويض أو انتقام من
الخطيئة الأصلية التي لاحقت الإنسان لمدة طويلة، بل لا زال شبحها يباغته بين
الفينة والأخرى.
توهيم العلم اتخذ
منعرجا خطيرا عندما أدعى أنه يعرف حقيقة الأشياء، بشكل جلي، وما إن يقترب حتى
يجدها سرابا تفلت خيوطه من يده، إنها لعبة جر خيوط الدمى كما وصفها شيلر.
لن يستكين المثال
الزهدي حتى يغزو الحقل الثقافي، بفعل سلطة العادة، والمعرفة المطلقة التي تدعيها
الثقافة، تحول هذا المثل إلى أسد يتخذ شكل حيوان أليف مع من يؤمنون بمقولاته لكنه
يكشر عن أنيابه لحظة اكتشاف طريقة عمله. هكذا هي الثقافة تصور نفسها على أنها
الأفضل، بل وفوق التاريخ.
كان لعنف المثل
الزهدي في الحقل الثقافي تأثير على حركية الجسد، كونه قيده بدعوى حمايته، قام باستباحته
وتملكه على حساب تلقائيته البيولوجية. نجم عن ذلك فتور طاقة الجسد، وموت لقدراته
اللامتناهية، لحظة تحول الجسم إلى إله، حلول الأخلاق المرتكسة نحو الوراء/الأمام.
ربما يظهر ذلك في
عفة "بارسيفيال" بطل مسرحية "فاغنر".
إنها المسيحية الوجه
الآخر للمثال الزهدي، وهنا يتخذ شكل الدين.
الالتفاف على محركات
الشبق الإنساني التي تولد الإبداع، كأن الروح مقصورة فقط على الدين. يستحضر نيتشه
شخصية "بوذا" دلالة على هذا الإرتكاس.يقول "بوذا":"الحياة
في المنزل محدودة، لدا لزم التخلي عن الدار". فرحل من أجل المثال الزهدي. ربما
كل مآسي البشرية سببها هذا المثال الذي يتخذ الأشكال السالفة الذكر:العلم/الثقافة/الدين،
على الأقل في حدود التصور.
لن تستطيع الدراسات
العلمية التي تمتح من المثال الزهدي اكتشاف طبيعته، لأن منطلقها وولادتها جاءت
منه، بكلمة ألقاها هو من أطلقها.
مهمة الجنيالوجي هي
البحث عن كيفيات النشوء، لدا فهو ينزع نحو العزلة أو التجريد كي تتضح الأشكال
أكثر، يرسم نيتشه صورة عن محاولات الفلاسفة للخروج عن الصمت المثالي، والبداهة
الثقافية، فتأسيس العزلة لا يكون بالابتعاد عن الحشد فقط، بل بناؤها وسطهم
ومتعالية عنهم في نفس الآن، يقدم نيتشه هنا كمربٍ لثقافة القوة، ليس بمنطق القطع "مع"
والالتحاق "بِـــ"،
ولكن إعادة النظر لا تقتضي طرح البديل حتى ولو وجدت قراءات تضع نماذج تأويلية
مفترضة طرحها نيتشه.
يظهر هرقليطس في
معبد "ديانا" بأثينا ليس بوصفه زاهدا لكن يحاول قراءة المتواري في
الوجود البشري، يؤسس لثقافة أو لربما يقوم بالهدم، حتى نبلغ شذرته المدمرة: "كل
شيء في انهيار".
يطالعنا نيتشه
بإنهزاميته/تفوقه في غرفة عمله المطلة على ساحة "سان مارك"، يفكك تاريخ
وميتافزيقا الفلسفة الغربية، كي ترتحل ثقافته نحو الشرق، أو لربما حدود "الفيدا"،"التاو"،
"الأوبانيشاد"، أو "الأفيستا".
صمت الثقافة
النيتشوية، الظاهر أو ضجيج الكلمات الباطن، فالكلمة تعبير خارجي يتقنه الخطيب،
خطابة أرسطو واستعارة أفلاطون، توحي باختلاف نبرة الكلام مع هيذغر المصغي لقوة
الوجود، وصمت هرقليطس.
يسعى المثال الزهدي
لملئ الفراغ،للحديث عن الموجود بلغة هيذغر، إنه اهتمام به ونسيان للوجود بمعنى ما.
إنه الفوضى السكونية الثقافية أو العلمية التي تلبس عباءة الراهب الطهراني، لا
يمكن إلا أن تقضي على الإزدهار الفيزيولوجي: الجمال،الفرحة،الجسد،الهوى..هذا ما
دفع بكانط إلى إخصاء الفكر، بإقصاءه للمقولات البيولوجية من فكره، إنه حقد على
الحياة، ليبتكر بدلا عنها: العقل الخالص،الروحانية المطلقة،المعرفة في ذاتها..
يتقاطع المثال
الزهدي مع العلم أو ينصهر معه لحظة إضعافه للطاقة الحيوية، يستحضر نيتشه هنا
عمليات التطبيب الكهنوتي، عندما يقاوم الكاهن الأهواء، ويثير الإرادة النافية
للغرائز قد تكون أخلاقا أو شعورا بالذنب، لتغذو النتيجة تنويما مغناطيسيا بطيئا،
وتتواصل عمليات إقتحام المثال الزهدي لمجالات الممارسة البشرية على صعيد الأخلاق
العملية، حيث نجده يلبس منطق القيم المستعبدة التي تدعي السمو والتعالي. يجد
العبيد ضالتهم في المثال كي يحقدوا على الأقوياء، وهي لعبة مقيتة هدفها ثني القوة
كي تتراجع وترتكس عن الفتك بهم.إنه إرادة إلتهام القوة المباشرة بقوة رمزية، وكل
نظرة للوراء قد تؤثر على أخلاق السادة.الأمر أشبه بسفينة يقودها محارب قوي لكن بعض
أفرادها يتهددهم الغرق، فيحاولون التأثير فيه كي ينقذهم ليفتكوا به. صورة داروينية
مخزية لهذا المثال الزهدي الذي ما فتئ يجدد "أسطوله الحربي" متنقلا من
مجال لآخر.
تعمل الذاكرة على استحضار
الماضي "الجميل" للثقافة، إنها محاولة دائمة على تذكير الإنسان بما مضى
وتحسيسه بالدونية أو الديِْن تجاه الأسلاف، الذين لن يستطيع رده إليهم مهما بذل من
جهد. وهذا ما يضمن استمرارية المثال الزهدي في الثقافة. إنه يُشْعر الإنسان بالذنب
الذي هو شعور مصدره هذه الذاكرة التي يتهددها النسيان كقوة بيولوجية طبيعية لكن
صُورت من طرفه على أنها سلبية هدامة للمعنى والقيمة.
لماذا جاءت صيغة
المثال الزهدي مفردة؟ ألم يشهد التاريخ وتعاقب الحضارات أمثلة زهدية كثيرة؟ لربما
أن الصيغة المفردة دلالة على تعدد الأشكال ويبقى الجوهر واحد. إنه صيغة موحدة لكل
الإمكانات التي يمكن أن يتخذها المثال الزهدي. قد يحصل في بعض الأحيان أن ينفي
العلم/الثقافة/الدين مثاليته أو سموه، ولكن هي عملية خداعة تسعى نحو الإحتجاب
بغاية الظهور، الأمر أشبه بلعبة الحقيقة والتواري.
يطرح نيتشه تساؤلات
إزاء عملية إقامة المثل الزهدي:
01- هل هناك ثمن لإقامة أي مثل أعلى؟
02- كم تم من أجل إقامته الإفتراء على الواقع وتجاهله؟
03- كم من الكذب تم تقديسه؟
04- كم من الضمائر تم إقلاق راحتها؟
05- كم من الآلهة تمت التضحية بها؟
يحاول نيتشه أن
يتنبأ بالإنسان الأعلى القادم الذي لا يقهر ميولاته، ويحطم أصنام الأخلاق والشعور
بالذنب لبلوغ المراتب السامية بالرغم من أن قوى الإرتكاس ستصفه بالمبتعد عن الواقع.
هل يعني أنه أسسس
لميتافزيقا جديدة؟ كما تساءل هيدغر.ألم نجد مثلا زهديا جديدا حاول نيتشه وضعه
بدعوته للسمو.ألا يعني ذلك إنعدام أفق التأسيس؟ هل هذا يجعلنا نلج عصر فوضى جديدة
مع القطع مع نظام الأشياء السابق؟
يتظاهر نيتشه بل حتى
الفلسفة المعاصرة بأنها لا تعطي البديل ولا تسعى لتأسيس العالم، وإنما تقويض
تاريخية الفكر الغربي، والرجوع إلى مرحلة ما قبل النشوء، أو التذكير بحقبة
الولادة، لعل ذلك ما يفسر ظهور النزعات التفكيكية في
اللغة،الآداب،الفنون،الفلسفة،السياسة.. من فيلولوجيا وجينيالوجيا وأركيولوجيا.
بقلم : ذ مولود البيكم