تيه فينوس *


لا زالت زخات مطر الذاكرة تتقاطر على محيط الأمل، إذ أن باعث اللذة يحاصر فينوس العقل، لست أدري ما الذي يمكن أن يباعد بين الآفاق البعيدة، لربما كان البعد أقرب لي من القرب لكأنه يولد العمى. يحدثني فينوس عن ذاته، حينما يشتد به الجنس، كي يمارسه على منضدة الإستيهام، يرتد ثورا هائجا، بركانا ثائرا بعد خموذ، يتحدث عن محبوبته التي تسكن التبث، ينصت لترانيم "الدلاي لاما"، الروحانية، في سيمفونية متناغمة مع جبال الأرجوان، أيا أيتها الروح سافري، إلى حلقات إتصال متتابعة، يخاطب العقل: من أنت؟ أما آن لك أن ترحل؟ لكم هو غريب أمرك تظل تحلل،تنتقد،ولا تعطي البدائل، مرض عصرنا كلٌ يصف الواقع، يُشخص أعراضه، يستعرض مظاهره، لكن لا يقوى على خلق العصا السحرية التي ستمكن من علاجه. يرحل فينوس لا يدري الحقيقة، ولا الهدف، لكم كانت مأساة الإنسان هي تسطيره للأهداف، لو كانت الحياة منعدمة الغايات لربما كانت ستكون أطهر،أجمل، حتى أن الشمس ستغني أناشيد الأوبانيشاد، أو سيتوقف العقل عن رسم الصورة السوداوية عن الحياة، إن حقده لا يمكن أن يُحد، لكن الحلم يُقلق راحته. لدا قرر فينوس التخلي عنه هنيهة، عله يظفر بمعرفة قلبية متعالية، لا تجد فيها اللغة مكانة، ولا تحظى فيها الكتابة بسَهْم. فينوس أيها الذاهب إلى الحدائق المعلقة! أيها الراحل عن ثنائيات الحب والكراهية، أيها الحانق على تقنية الأشياء! أسئلك الرأفة بالناي الناغم، تحدث عن الأمنيات الشاردة، بَعْثر تصاميم الأشياء، قُمْ بقلب نظام العالم، أعدنا لزمن ما قبل القول، لست بحاجة لثقافة البناء ولا الهدم، أنقذني من توتر ثنائيات المرض والصحة، الجمال والقبح... لا تُلقِ بالاً يا صديقي، ففينوس يبعث الأرواح، يُزكي الراهبات، يُغني للكمنجات، يَرد على المستخفين بالأرض بقدرته الخلاقة، لم أعد أُلقي ثقة في قلوب العابرين، لربما وجدتك يا فينوس في آخر القائمة، عندما هربت الشمس من موطنها لتحملهُ نحو عالم فارغ، لا يوجد فيه إلا الصمت المطبق. الحجارة الصماء،الفراغ القاتل، والأكثر من ذلك اللامدرك، اللامتحدث فيه، اللامفكر فيه وما لَم يخطر على بالِ العابرين نحو السماء. مأساة فينوس ستعود به القهقرى نحو ذكراه المنسية، نحو الألف والباء، لحظة حديثه اللغة، وتصنيفه للأشياء، لقد طُرد من نعيم لا ينفذ. بل نقول إنه طَرد نفسه نحو العوالم المتدنية، الهابطة والساقطة، قطع مع لحظة ولوج فينوس لعالم الزوال، صار يُوحد بين الأشياء، ويتأمل عذريتها، حاول الربط فيما بينها بعدما كانت تحيا حياتها التلقائية، أنشأ الكوخ وإصطاد السمك، حطم الأشجار، وباغت زهر اللوز، إلى أن أدى به طريقه نحو البحر، ليتلقاه إلهه الأكبر: بوسيدون الذي كان يهيم في المحيطات، متنقلا من شاطئ لآخر، يبتلع السفن، ينفخ عبابه الثقيل نحو اليابسة فتخضر شفاهها في مشهد يوحي بالغرابة البئيسة. حاول فينوس في بداية علاقته بالبحر،أن يداعبه، إنه لا يكف عن إثارة النعرات، وإيقاظ البراكين النائمة، فهو لم يتعظ من حادثة طرده من الفردوس الأعلى، الحدائق المعلقة على جدائل بابل، لكم هو بئيس التباث، لا يمل تباثه السكوني المطلق، لكن فينوس لا يؤمن بالواحد على حساب الآخر، إنه تأرجح الثنائيات. يُداعب الحركة كي يعود السكون، يُحطم منطق الخلود، لأنه فار منه إلى حيث لا قرار. نهض فينوس فإكتشف أن له فكر،إرادة،حب،عاطفة،هوى،أطراف.. قام بإستخذامها كي يتحدى إله البحر: بوسيدون! قطع الأشجار،حمل الأوراق،إصطاد السمك، إستخذم العقل لصنع السفينة، لم يكن في خلده على أن غريمه البحري سيبتلعه هو وسفينته، سينفخ عليه عبابه أو يوصله إلى اللاقرار،إلى موته المشتهى، إلى المجهول. حيث لن تكن له القدرة إطلاقا على الإدراك. عالم لن تستطيع اللغة نطقه، أو التعبير عنه. سعي حثيث، فصنع سريع للسفينة، إختراق للبحر، تغلبٌ على بوسيدون، وصل إلى "الألدورادو" الجميل، وجد قوما يتحدثون لغة لا يفهمها، لهم ثقافتهم وعرفهم، نظرتهم للحياة سرعان ما إنصهر مع الإنسان الذي وجده شبيها له، لم يصدف نفسه: هل هناك من طردته الآلهة من ظفائر الحدائق المعلقة؟ لكأنما حياة "هادس" أجمل من حياة العالم العلوي. - لماذا أتيت هنا؟ - كي أُعمر العالم؟ - وهل العالم بحاجة إلى من يعطيه المعنى؟ - أنا من أهبه الدلالة، وأُعمره بمعرفتي - تُسْقِط علي التفاهة، تُبَعْثر نظام الأشياء العذري. - لو لم أكن ماذا سيكون؟ - لم نخلق لنسأل كيف بدأ الخلق؟ يُصارع فينوس عقله وقدرته، لقد صار يتأمل و يطرح سؤال المعنى. لكم هو غريب أن يطرح هذا السؤال، كونه إحالة على العذاب الحضاري الذي يمكن أن يتخبط فيه الإنسان. راح فينوس يُبشر بحقيقة العالم، وإبتكر الأقانيم وبنى الثماتيل كي يعود نحو عالمه الأول، حيث تنعدم الثنائيات، وتسود الوحدة،بشر بمعتقده الجديد وهو البَحار العابر للمحيطات، والصَياد العابر للقارات، حطم عادات الأنديز، وتنكر لجميل الألدورادو الذين رحبوا به عندما كان لاجئا من حرب بوسيدون. بُعثت قوى النور الظلامي في وجدانه، فوضع منطق "إما أو" أن تكون معي في نشري لمعتقد فينوس أو ضدي. كانت بوادر العنف الأولية للبشرية تطفوا للسطح، أليست آلهة العالم كلها خير،صفاء،جمال،سعادة،أبد متواصل،صيرورة مستمرة،تعالي راقي؟ ليست كل هذه الأشياء التي أتيتم على ذكرها في نظر فينوس سوى تبريرات لخوفكم من معتقدي الجديد. أنتم لم تشاهدوا العالم العلوي الذي كنت فيه، لقد إنبثق العنف فيه، وتظنون أنه يسوده الجمال والخير، أنا من يُحدثكم، يروي دمائكم بطاقة خلاقة مبدعة، قادرة على الرقي بكم، إن إتبعتموني وأنصتم لنصحي كانت لكم النجاة، فأُقنومي لم يأت من فراغ، إنه نتاج صراع معه الآلهة، قَتْل لبوسيدون، تحطيم لهادس، نفي لبائعي الهوى ومسوقي التفاهات. دائما هشاشة البدايات تجعل الأفراد المعاصرين لها، يبعثون نائمين كي يأخذهم فينوس إلى محطة الفناء الأزلية التي لا تنطبق عليها مقولات وجودنا العيانية. لقد آمن له سكان الألدورادو ومن إستغرقه التفكير كثيرا، تكفل به الداخلون للدين الجديد، هازم اللذات، محطم بوسيدون الكبير. جميل المحيا سيُعلق حدائق بابل من جديد في جبال الأنديز. يُملي عليهم طقوسهم الدينية: حصة في الصباح قائمة على إصطياد النمور المريضة، إمتصاص للدم وصناعة لباس من جلدها. لحظة إحتساء نبيذ مخزن في دهاليز كهوف الغابة الأمازونية.شعائر تقام هنا وهناك، تكفير عن ذنوب إقترفت إفتراضا، تسبيح بحمد فينوس، إلهنا المنقذ من الضلال!! يتساءل "سيراج" المفكر: متى كنا ضالين حتى نكفرعن ذنوبنا؟ قام فينوس بمعية مريديه بإدخال سيراج للسجن، تتلقاه العقارب الأمازونية الشقراء اللون، والثعابين الممنوعة من التجول. لكم هي غريبة الحياة- يتأمل سيراج- عليه أن يكيف نفسه مع الوضع الجديد، يا أيتها العقارب لستُ مذنبا كي تلسعيني، أما الثعابين فلكِ مخرج من ناحية اليسار كي تبحثي عن ما تريدين. الحياة ربما كانت كنزا يمكن المحافظة عليه بأي ثمن، لم يحاول سيراج أن ينتقم من فينوس الإله الجديد، لكنه كان يسعى نحو محاورته فكريا. لكم أشفق عليك يا سيراج، كيف للعقيدة أن تتحول لموضوع فكري. لقد سميت لأنها تركيبة معقدة للأشياء، تحاول الربط بين عناصر الطبيعة بكيفية ما. قام سيراج بعد قضائه على العقارب وغيرها، لما كان فينوس صادَر عُذرية العالم، وأعطاه الدلالة، وخلق اللغة وإقتحم البحر ونفى إلهه بوسيدون، ألا يمكن أن نعيد الدورة لبدايتها؟ أن نقف عند مرحلة ما قبل النشوء؟ كيف هي حالة الأشياء في تلك اللحظة؟ - لكأنك يا سيراج تحاول أن تبني عقيدتك الخاصة ، تقضي بها على فينوس الأكبر، الإله الجديد. - لست كذلك ، لكن أن يتم تحطيم العالم أو تفسيره أو تبريره بإسم العقيدة فهذا خطر على رحِمه. فينوس الكبير يتقدم نحو سجن المارقين في جبال الأنديز، يلجه فيرى مجموع المجانين،المصابين،قاطعي الطريق،مارقي الأديان. يُطل فجأة على زنزانة سيراج يراه جالس القرفصاء، لا يرى سوى العتمة. - ألم يحن الوقت للمراجعة؟ يقول فينوس - متى كانت عبادة الصنم البشري حقيقة. رد سيراج - أنا لست صنما، لكني أحمل هَم العالم الأرضي، حتى لا تطاله أيدي آلهة الأعلى. - ولماذا لا تدعوا الناس لتبجيلك وعبادتك؟ ماهذه الطقوس التي وضعتها لهم؟ - لربما كانت العبادة تحتاج لطقس شعائري، يذيب غربة الإنسان الوجودية في هذه الغابة الكسيحة. - العقيدة لا تحتاج لعبادة، أن تُكره الناس على الإيمان هو فسح المجال لممارسة العنف، الذي لن تتوقف دوامته مادام الإكراه قائما. - يبدو أنك لا تنفع معك المجادلة. أنا فينوس إبن أفسوس لن أدع لك الفرصة كي تدمر ما قُمت بٍبناءه. تحملتُ عناء العالم بعدما تركني سيزيف أمام بوسيدون. يظهر أن سيراج حطم أوهام الظلام السجني: غرابة، قنوط، خوف، تمادي في محاصرة الجسد، ليُطلق أحلامه كي تتعالى في سماوات البنفسج، ظهور العقل القادر بجبروته على بلوغ المطلق موازاة للوجود، فقط محاولته لبلوغ المطلق، جعلته يتصور الأشياء مُفارقة ومقسمة. فينوس الذي أله نفسه لم يستسغ عناد سيراج، محاورته له جعلتهُ يُفكر فيما قاله: أليست الحقيقة الدينية هو من قام بوضعها؟ ما الذي جعلهُ ينسى هشاشة البدايات حينما خرج فاراً بجلده من العالَم العُلوي ؟ إن الذي يجعل الأنظمة الثقافية تنسى لحظة بدايتها هو إدعاء الإطلاقية والكونية بل وأبديتها الدائمة. تتصعد نفس فينوس نحو السماء كي ترتطم بالأرض، يخرج من الزنزانة بعد جدالٍ عقيم مع سيراج، يتذكر مآسي الإنسان: العقل،الفكر،الإرادة،الحب...يُبرطم فينوس بكلام غير مفهوم من هَوْلِِ صدمته مع من يظن أنه يشارك معه إلوهيته، مشاركة غالبا ما يكون مصيرها الصراع الأبدي، تُظهر أساطير اليونان وملاحم جلجامش، كتجلٍ لهذا الصراع. سيراج الإنسان لن يؤله نفسه، يحاول فقط وضع الأمور في نصابها، إستخذام العقل، يجابه الأسطورة،الظلام، العتمة، لكأنه يؤسس لفلسفة تنتصر للوجود على حساب الغموض. الظاهر على حساب الباطن، المدنس على المقدس، يتحرر من خطيئة لم تكن له يد في وضعها، يتصالح مع جسده الذي صورته الأساطير أنه دنس. الغريب في أمر الإنسان هو حينما يصدق نفسه إلهاً، ملاكا متعالياً له القدرة على إحياء الموتى والتحكم في الأرواح.
بقلم الأستاذ مولود 

قالب تدوينة تصميم بلوجرام © 2014