الفلسفة المعاصرة


إن الفلسفة المعاصرة هي فلسفة تشتت وتنوع،تستنطق الهوامش،وتقوم بتفكيك مركزية العقل وإمتداداته المعرفية والعلمية والميتافزيقية،ما جعلها تنأى بنفسها عن بناء الأنساق الفلسفية الشاملة لمناحي المعرفة،خصوصاً بعد تحققها التاريخي،ما هي إذاً الإشكالات التي عالجها الفلاسفة في الفترة المعاصرة؟ وما هي الأوضاع والمجالات التي توقفت عندها الفلسفة المعاصرة؟


أرتبط التنوع في الفلسفة المعاصرة بأزمة الأنساق الفلسفية خصوصاً بعد وصولها إلى نهايتها،وتحققها التاريخي،ما حدا بالفلاسفة إلى طرح جدوى النسق الفلسفي الشمولي،بإبرازهم للأبعاد المتعددة للأنساق، فالنسق الفلسفي يكرس سلطة الخطاب الواحد،والتصور الكامل للمعرفة،وللوجود، وللقيم،يظهر ذلك بجلاء في تاريخ الفلسفة( أفلاطون،أرسطو،ديكارت،هيجل وآخرون)، وقد أدت نتاجات الحداثة بثوراتها العلمية والمعرفية، إلى جعل الفلسفة المعاصرة تعيد خلق إشكالات تتعلق بوضع الإنسان المعاصر، يظهر هذا في المجال العلمي والتقني بالنسبة لأزمات العلم المعاصرة مع هيذغر في مساءلته للميتافيزيقا الغربية،حيث تم نسيان الوجود والاهتمام بالموجود، في إشارة للغياب وانعدام للحضور، وما ترتب على ذلك من إستيلاب للتقنية للإنسان بل تحوله إلى وجود مشترك خالٍ من القيمة.

تطرح التقنية إذاً إشكالية معرفية متمثلة في أزمة العلم ومفاهيمه، ووجودياً بنفيها للإنسان وتحويله إلى أداة، وهذا ما خلق التيه مقابل الحقيقة التي كرستها الأنساق الفلسفية الشمولية.
مساءلة الميتافيزيقا لم تتوقف عند هيذغر بل تجاوزتها إلى فلسفة التفكيك مع "جاك دريدا"، في حديثه عن مركزية الصوت باعتبارها أصلاً ونفي للكتابة التي تبقى نسخة لن تطابق المعنى مهما حاولت الذي يعطيه الصوت،وهنا صارت المعرفة غياباً وصار الهامش مركزاً.
أهم الفلاسفة المعاصرين الذين تحدثوا في أزمة العلوم الإنسانية،والقضايا الهامشية التي أهملتها الفلسفة الغربية(السلطة،المعرفة،الجنس،الخطاب...)،فالسلطة مثلاً لها إستراتيجيات وتقنيات تروم إلى السيطرة على الجسد وترويضه من أجل المصلحة الاقتصادية للبلدان،ويظهر ذلك في آليات المراقبة والمعاقبة،واستغلال السجين-الإنسان،وفرض معايير معينة في إضفاء صفات "السوي/المجنون" عليه،وأيضاً في تشكيل خطاب حول المعرفة
                                                                                  
إن الفلسفة المعاصرة أقترن معالم تفكيرها بحديث النهايات(موت الإنسان،التاريخ،المؤلف،المعنى،النص،الكتابة..)،وهذه المفاهيم كانت لها حظوة في الأنساق الفلسفية الكبرى،فقامت الفلسفة المعاصرة بتفكيكها،وكما تمت الإشارة إلى المجال العلمي والتقني،فهناك فلاسفة آخرون أنكبوا على معالجة قضايا مرتبطة بالعدالة والأشكال الجديدة للسلطة،وحقوق الإنسان..وهي قضايا تنتمي لحقول العلوم السياسية والاجتماعية والتاريخية.
وقد كان "ميشيل فوكو" من الإستشفائية والسجنية من أجل تبرير السياسات المهيمنة على الجسد، وهنا تغذوا المعرفة سلطة، والحقيقة خطاب مهيمن،هذا التفكيك الفوكوي للسلطة وأشكالها المتنوعة(المدرسة،السجن،المستشفى،الإدارة..)، يجد تبريره في نيتشوية فوكو،ونزعته الكشفية عن الإرادات المتخفية وراء المثال والفكرة.
تمتح في مرجعياتها من الحق الطبيعي للإنسان،فهي حقوق كونية تتعالى على الاختلافات الثقافية والعقائدية، وقد كان للأزمات السياسية دور كبير في صياغة وثيقة عالمية(ميثاق الأمم المتحدة)، تقبل الإضافة والتعديل لحقوق الإنسان المتنوعة،باعتبارها ليست معدودة ولكنها في حالة نقص دائم.
يظهر إذاً مما تقدم على أن الفكر المعاصر يطرح قضايا متنوعة وإشكالاته تتولد باستمرار،وتتداخل كي تعطي لوحة تشكيلية مختلف عناصرها،فلا يوجد فيه خطاب واحد،كما أن الفلسفة لم تعد تطرح سؤال التأسيس وفهم العالم بطريقة أحادية ونسقيه وحقيقية ،بل صارت تُسَاءِل وتفكك وتنفد،

سيتجه الفكر المعاصر إلى الحديث عن إشكالات العدالة السياسية والقضائية،خصوصاً مع "ليو شتراوس" في المجال السياسي،و"جون راولز" حول إشكالية العدالة التوزيعية.وفي خضم هذا النقاش الفكري حول قضايا العدالة والسلطة والمعرفة،انبثق إشكال حقوق الإنسان،باعتباره منظومة لا تقبل التجزيء،
وفهم بأن هذه العمليات هدامة للفكر بقدر ما تنير له دروباً ورؤى معرفية وحياتية جديدة.



بقلم الأستاذ مولود البيكم

قالب تدوينة تصميم بلوجرام © 2014