أكثر ما يمكن أن ينتبه إليه النبيه والغبي على السواء في هذا الزمن هي السرعة ، السرعة في كل شئ ، في سير الأمور العادية والمركبة من الحياة ، كما في سنة التغير التي تشهدها الحضارة الإنسانية . فالسرعة التي تتطور بها المجتمعات أصبحت شيئا واضحا جدا .
قيم المجتمع من الأشياء التي تتغير بشكل سريع ، حتى أضحت بعض قيمنا التقليدية التي كنا نرى فيها وجوهنا الحقيقية قد انمحت أو كادت في لمح بصر . أمر باستمرار من أمام بناية بلدية كلميم ، وفي كل مرة أعبر من هناك أرى هذه العجوز المقعدة التي اتخذت من شارع البلدية منزلها . تبيت فيه على كرسيها المتحرك في ليالي الصيف والشتاء ، كما تقضي فيه نهارها تحث لهيب الشمس وصفير الزوبعة . وكما لم تخطئ عيناي هذه المرأة ، أجزم بأن أعين رئيس البلدية وبقية الشلة قد رأتها وتراها كل يوم . المسألة ليست في هذه العجوز أو بقية المواطنين الذين أنهكم العمر ونسيهم الجميع أثناء المرور السريع على أجمل قيمنا . تكاد زوايا المدينة تكتظ بالعجزة المتسولين ، وتكتظ منازل هذا العالم بالطاعنين المهملين الذين حكمنا عليهم بنهاية الصلاحية رغم أنهم لازالوا مثلنا يقتاتون من الهواء فرصتهم في الحياة . إنما المسألة كلها في تهافتنا نحو الشق المتهرئ من قيم العصر الجديد .
بت الإعلام الصيني منذ مدة خبرا مؤسفا ومفجعا في ذات الآن ، مفاده أن مواطنا صينيا أجبر والدته على العيش داخل حظيرة للخنازير لسنتين ، وهي الأم البالغة من العمر عقدها التسعين .
مثل هذا الخبر يتكرر على المسامع في بلدنا أيضا ، وكثيرا ما نقرأ في الجرائد قصصا مشابهة ، وطبعا بقية قصص معانات الطاعنين في السن تبقى أسيرة الصمت الرهيب المفروض عليهم .
الفرق بيننا وبين الصينيين هنا ليس في معانات هذه الفئة ، إنما في طريقة تفاعلنا مع هذا الأمر . فنحن لا نخون صفتنا العميقة والمتمثلة في كوننا نمزج بين النفاق والخطابة الخشبية ، نكرر على الآذان قيمنا التي تحفظ أشيائنا في ثلاجة ، ونضل ندافع عن خرافتنا . بينما يرتج المجتمع الصيني من هذا الخبر ، ويتحسس أنه بدأ يفقد قيم العائلة التقليدية الصينية ، ليتصرف.
فقد مررت السلطات الصينية قانونا أوليا يلزم الأبناء البالغين بزيارة آبائهم الطاعنين في السن بشكل دوري ، وقد أورد الخبر أن خرق هذه القاعدة يترتب عنه زجر الفاعل بعقوبات سيفصل القانون في نوعيتها .
المفارقة " الأخرى " العجيبة ، أن معانات الطاعنين في السن هناك " في الصين " يجد مستندا آخر يبرره ، ألا وهو نتائج سياسة تحديد النسل الصارمة التي تبنتها الصين منذ زمن ، حيث يجبر الزوجان الصينيان على وليد واحد لا أكثر ، وهو طبعا ما أنتج نوعا من اختلال قيمة التكافل داخل مجتمعهم . الصينيون لا يقبلون لأنفسهم تبرير هذا النوع من الإهمال . بينما نحن نفرخ الأسباب والتعليلات كما نفرخ الأبناء المجردين من كل قيم حقيقية .
نملك رصيدا هائلا من موروث القيم التي تؤهلنا إلى بناء مجتمع سليم متكافل ومتضامن ، وكل ما يلزمنا هو الفعل ، وهو طبعا ذات الأمر الذي يلزمنا في بقية الأمور .
بقلم عصام بقسيم