هل هنالك من قبح في
الوجود يحاكي بشاعة جرائم الطغاة ، لم تقلع الطائرة بي من مطار الدار البيضاء إلى
مطار صبيحة التركي ،نزهة للعقل وسياحة للبدن وتجميل للجسد وترفيه للنفس، بل فرار
اضطراريا قاسيا من حلكة واقع مر لا مكان فيه للقيم الإنسانية النبيلة ، استقيت
منه دروسا كبيرة بحجم الحياة ذاتها ،هذه تركيا البلد الإسلامي _شكليا_ ،
مكتظة بالآلاف المهاجرين ،كل واحد منهم مستعد لخوض تجربة العيش في جنان
أوروبا العجوز،هكذا يشعر المهاجر المتخفي ساعة خوضه تجربة عبور حدود الجغرافية
بأقدام شبه حافية وأنفس متعطشة لرؤية المجهول المنتظر، ، كم هي جميلة بلاد
الأناضول مقارنة بأوطاننا الترابية ،يستحي الغراب الأسود عبور سمائها ليلها
الكئيبة ،لازلت أتذكر كلمات مهاجر بائس مثلي:" الحياة تبدأ هنا ..والموت
تركناه خلفنا "، اعتقدت للوهلة الأولى ، أن للبشر طبائع متشابهة عمقها الشر
والريبة من كل شيء ، جدارا على وشك السقوط كان ، أم كلبا مفقوء العين أم
جسدا بشريا مترهلا من ثقل الزمان والانتظار ، بيد أن الحقيقة خالفت تصورات ذهني
المشوش ، فالبشر مثل الأشجار يسايرون هوى الطبيعة ورياحها المفاجئة ، الشجر
التركي بمجرد النظر إليه ،تغمرك السعادة وتلحف ذاتك طمأنينة صوفية ،
حتى أقدامك تحس كأنها تمشي فوق أرض حية تتنفس وتتكلم وترى ،إنها الحضارة الإنسانية
بأبهى صورها ،...لا أحد سواي كان يحمل تلك الأفكار السوداء المقيتة ،ألم يعلمني
وطني أن أحتاط من كل أصناف البشر وأترقب في صمت ما سيلفظه القدر
لي، وطني كما تخيلته في صغري لم يدعوه يكبر ويكبر، بل استبدلوه بوطن
لقيط ،مشرد وقاس ، يلاحق فلذات أكباده في الشوارع والأزقة وساحات الجامعات ،
كأنهم صراصير معدية ، أو فئران موبوءة ، أو جراد صحراوي عابر ،أما تركيا
السعيدة تعني الشيء الكثير لمن زارها واستنشق نسيمها ،إنها تعكس الحياة
المادية البسيطة التي حرمنا من ملامستها بلطف وحنان و منعنا من النمو في
أحشائها الدافئة بسبب جاهلية سياسية غير مبررة .
مكثت في تركيا أربعة أيام كاملة ، قبل أن
ألتقي "الحراك" أو الشخص الذي سيتولى عملية تهجيري سرا إلى بلاد
الإغريق ،كان شابا مغربيا ناضجا واعيا وهادئا ذو ملامح أمازيغية بيضاء وبنية
جسدية هزيلة ، أصلع الرأس أما مساعده الكردي، فكان طويل القامة ، قوي البنية ،
صاحب صوت جبلي خشن وملامح صخرية جامدة ، جلسنا في مقهى شعبي باسطنبول "
منطقة أكساراي" وبأريحية هادئة اتفقنا على تحديد الثمن(...) ،قبل
أن يلتفت "الحراك المغربي" إلى مساعده الكردي ليحادثه
في أمور تتعلق بتفاصيل تنفيذ خطوات العملية ..، ثم أعاد النظر إلي وهو
يخاطبني " عليك إن تستقل الحافلة إلى مدينة" أيزينكيبرا
رفقة هذا الرجل على الساعة السابعة مساء اليوم، التزم الصمت طول الرحلة ... مفهوم
" ، أجبته في الحين وببرودة أعصاب "مفهوم صديقي" ، وفي
الأثناء كانت الأمطار تهطل بشدة لتغسل الجفون الحزينة وتسقي زهور الحب
القديم ، وتحي ورود التعايش الثقافي فوق أديم هذه الأرض الفاتنة
والباسمة .
في الموعد وبالقرب من محطة الحافلات
لمحت عيناي الرجل الكردي واقفا في الجهة المقابلة وبإشارة من سبابته اليمنى،
وإيماءة خفيفة برأسه الغليظ الكثيف الشعر، سارعت إلى ركوب حافلة الخلاص
،كانت أشياء كثيرة تدور بذهني كالأمل والفرج والمصير، لكن صور البؤس
والتعاسة تلبدت بعقلي طيلة الساعات سفري الستة ، رافقتها خشية ذاتية مجهولة بدت
كإشارة مشفرة تجاه قدر محير و غامض،قدر ينتظرني بأحر من الجمر، فجأة حضرت
ببالي صورة الأم وكلماتها الطيبة الثمينة، فتحولت كل تلك الأحاسيس والتخيلات
إلى دافع إيماني قوي ، شجعني على قطع المسافات الطويلة ومواجهة شتى الصعاب الشائكة
، كانت الحافلة بالنسبة لي فضاء لتصفية الذهن واسترجاع الماضي وتأمل مسار
الحاضر لا غير ، لازلت أتذكر سكونها وهدوءها الأوروبي ورقة قلوب ركابها ، وكيف
أكرمنا "مساعد السائق " بطعام جيد ، لذا لا ينبغي أن أقارن حافلات تركيا
الرشيقات بحافلات بلدي المهترئات ، كانت بجواري مقعدي فتاة تركية محجبة تقرأ
سورة من القرآن الكريم باللغة العربية ،تتهجأ الحروف لتتدبر المعاني المقدسة
،وأمامي فتاة أخرى تبدو من ملابسها الخارجية عصرية و متفتحة أكثر من اللازم
،تسند ظهرها إلى الوراء فيما تشاهد فيلما رومانسيا مليء بالقبل والدموع والأحضان
، تركيا الحالمة العاشقة والمتفتحة ، و تركيا المحافظة الوقورة
في طريق واحد......نحو ايزنكيبرا .
كتبها : عبد الهادي حمدي
الجزء الثاني مذكرات متسلل : 2 / نهر ايفروس