"يا أخي، نريد تطبيق شرع الله، ألا تريد أنت أيضا تطبيق شرع الله؟"
كم مرة سمعت هذه الجملة بتنويعاتها المختلفة؟ كم مرة وقف أحد الساسة يخطب خطبته العصماء ليقول: "نسعى لتطبيق الشريعة"؟ حتى الساسة الذين يفترض فيهم "مواجهة التيارات الدينية" يضطرون في خطابهم إلى تأكيد أنهم هم أيضا يريدون "شرع الله"، كل الحكاية أن الظروف غير مواتية لتطبيق الحدود، وأن علينا أن نقيم مجتمع العدل والخير والحق حتى يمكننا تطبيقها!
دعني أصارحكم بأن كل هذا الكلام في رأيي هو نوع من الهجص، ونفاق المجتمع، ومحاولة للسيطرة على المواطنين وركوب الشعوب، وعقد صفقة ظالمة تقضي بأن تأخذ من البشر دنيا يملكونها، لتعطيهم آخرة أنت لا تملكها، في حين أنه لا يوجد ما يسمى "شرع الله" من أساسه.
والمشكلة في تقديرنا أن هناك صورة ذهنية لدى أغلب المسلمين السنة، صورة بسيطة مسطحة، تقول إن "الله" أرسل رسوله محمدا بكتاب هو القرآن، والشريعة هي مجموع ما جاء في القرآن وما علمناه عن الرسول (الكتاب والسنة)، وإن كل ما علينا هو تطبيق هذه الشريعة لنصبح سعداء في الدنيا والآخرة. ولذلك فإنهم يرددون الجملة السحرية المنسوبة إلى محمد في خشوع تام: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا، كتاب الله وسنتي".
ونحن نقول: يا ليتها الأمور كانت بهذه البساطة والسهولة. فالواقع أن هذه صورة صنعت خصيصا بغرض احتكار السلطة سواء كانت سلطة دينية أو سياسية أو حتى اجتماعية، فالصلة بين أغلب المسلمين وكتابهم وسنة نبيهم ضعيفة للغاية، ولذلك فإنهم يوكلون العلماء الذين يفهمون في الكتاب والسنة، ليصبح هؤلاء العلماء ذوي سلطة دينية، لها تأثير كبير على السلطة السياسية، وهكذا يحكمون العالم الإسلامي وغير الإسلامي إن أمكن.
لكن، دعنا نفتش قليلا في هذه الفرضية، ونناقش عدة أمور:
أولا، لا يتسم القرآن بهذا الوضوح الذي يفترضه غالبية المسلمين السنة، فهو ليس كتابا في القانون ولا في الفلك ولا في الطب ولا في التاريخ، إنه يحمل شذرات من هنا وهناك يمكن تأويلها على ألف وجه ووجه، ناهيك عن أن جمعه وترتيبه شهد ارتباكا كبيرا، بحسب ما ورد في كافة المصادر الإسلامية، من ذلك القول بأن سورة الأحزاب كانت تماثل سورة البقرة في الحجم، ثم سقط أغلبها وبقي كما نقرأه في المصاحف الآن (نحو ربع الحجم الأصلي)، وأن البسملة لم ترد في سورة التوبة ليس لغلظتها وإنما لأن الأوراق المذكورة فيها البسملة فقدت، والقول بأن هناك أجزاء من المصاحف أكلتها العنزة، واتهام عثمان الذي جُمع القرآن في عصره بمسئوليته عن إسقاط بعض النصوص، واستبعاد عبد الله بن مسعود من اللجنة التي جمعت القرآن، رغم أنه من أوائل من حفظوه، وأن ابن مسعود مات وهو يقسم بأن المعوذتين ليستا من القرآن، بالإضافة إلى وجود سورتين بالتواتر الشفوي لم يجمعهما مصحف عثمان هم سورتا الحفد والولاية. وأمور أخرى كثيرة تتعلق بجمع القرآن وترتيبه ونصوص سقطت ونصوص تغيرت يمكنك أن تجدها في البخاري ومسلم والإتقان في علوم القرآن للسيوطي، والطبري وغيره من الكتب التي يعتبرونها مصادر أصلية "للشريعة الإسلامية".
أعتقد أن من هناك من يريد أن يسأل: هل تعتبر القرآن كتابا تم تحريفه؟ وأقول: لا يا سيدي، أنا لا أعتبر شيئا، ولا يعنيني في الحقيقة، وإنما وجدت نفسي محاطا بمن يريدون أن تسير الدولة التي أعيش فيها وفقا لكتاب، ولأنني أفترض في نفسي الجدية، فقد بحثت في تاريخ هذا الكتاب وعلمت هذه الأمور، من مصادرك لا من مصادر أخرى كالشيعة أو المستشرقين وخلافه. أنت لا تريد أن تتعب نفسك بالبحث، وأنا لا أريد أن أسير مغمض العينين، هذا كل ما في الأمر.
ثانيا، ما ذكرناه عن القرآن ينطبق على السنة أضعافا مضاعفة، إن الشك حول حقيقة نسبة النص إلى صاحبه، يطول حتى النص الخالد: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به ...."، فقد ورد بعدة روايات، منها رواية في البخاري نفسه: إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، أي أن السنة غير مدرجة أصلا في الحديث.
وكل ما ورد عن محمد، ذكر بعد وفاته بقرون، البخاري مثلا توفي 256 هجريا، وأقدم مخطوط لكتابه ظهر 265 أي بعد وفاته بتسع سنوات، أي أنه لم يكتبه بنفسه، مع ملاحظة أن معظمها تمت روايته في ظل حروب طاحنة بين أصحاب النبي أنفسهم، حتى إن موقعة الجمل الأصلية قتل فيها اثنان ممن يسمون العشرة المبشرين بالجنة (طلحة والزبير) على يد جيش يقوده صحابي ثالث من العشرة وابن صحابي رابع.
والمحصلة لدينا أن هناك تاريخا حدث، وما وصل إلينا وصل مشوها مبتورا مرتبكا متناقضا، وأنت انتقيت بعض هذه الأمور، كما انتقيت أنا بعضها، وكما يمكن لأي شخص أن ينتقي بعضها، ليصنع فهمه للتاريخ، وهذا لا مشكلة فيه، المشكلة أنك تدعي أن ما انتقيته أنت إلهي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بينما ما انتقيته أنا هو كلام علماني يريد هدم الإسلام، رغم أن كل شيء جئنا به من كتبك أنت، ولا مصدر غيرها.
ثالثا، حتى إذا افترضنا أن الكتاب والسنة بالوضوح الذي تظنه، فإن ما جاء بهما غير كاف لعمل تشريع يمكن أن نسميه شرع الله، مثلا، نقرأ في القرآن نصا عن تحريم الربا، وتحريم شرب الخمر، وتحريم أكل لحم الخنزير، وغيرها من الأمور، لكننا لا نجد عقوبات مقررة على من يفعل ذلك، طبعا إضافة إلى "الحجاب" الذي لا تجد نصا قاطعا يفرضه، وإن وجدت فإنك لن تجد أية إشارة لفرضه أو لعقاب السيدة التي تتركه. إننا هنا أمام "تحريم"، ولسنا أمام "تجريم"، فتأتي أنت لتسن قوانين تجرم هذه الأمور، وعقوبات معينة من اختراعك لهذه الجرائم وتقول إنه شرع الله. يا سيدي هل أنت الله؟
أنت تحاول سن قوانين نابعة من فهمك للإسلام، وانتقائك لتاريخه، وبدلا من أن تكون أمينا وتعرض علينا ما وصلت إليه باعتباره تأويلك، تقول لي: "مش أنا اللي باقول .. ده ربنا"!
رابعا، بالنظر إلى "المشروع الإسلامي" في أي صوره الحالية سنجد أمورا شديدة التخلف، لا يمكن القبول بها مهما كان سندك، ومهما كانت عقيدتك. الخلافة، مثلا، أمر تجاوزه الزمن، ناهيك عن أنه لا يوجد في قرآن ولا سنة ولا يحزنون، ولكن حتى إن وجد فإنه بلا محل من الإعراب في عالمنا هذا، والسعي إليه ضرب من الخبال، ويتجاهل الواقع الذي نعيش فيه.
تقطيع الأيدي والأرجل كعقوبات، التعامل مع أصحاب الأديان الأخرى، الحديث عن الجزية، ما يسمى بالبنوك الإسلامية، كل هذه أمور يلوكونها حاليا باعتبارها ملامح "شرع الله"، أي شرع هذا وأي إله؟ في الوقت الذي يسير فيه العالم نحو المدنية والتحديث والارتقاء بحقوق الإنسان وتحسين مستوى معيشته، مازلنا نتعثر في النصوص وما يجب أن نعمل به، وما يجب أن نتركه.
وأخيرا، فإنني أدعو المسلمين كافة إلى أمرين لا ثالث لهما، وسيندهش من النتيجة أيما اندهاش: اقرأ تاريخك جيدا وبنفسك، افتح الباب لتقبل وجود آخرين، وإننا متأكدون من أنك إذا فعلت هذا، ثم سمعت أحدهم يتحدث عن شرع الله، فإنك تلقائيا ستسأله: هل أنت الله؟
المصدر :