مجتمع الزيف هو منتوج ككل المنتوجات الزائفة ، فالزيف واحد وان تعددت تمظهراته . وبما أننا نعيش زمن مابعد الحداثة ، فان الحقيقة أصبحت تحرق كل سكان الكهوف عندما يضيق بهم الحال في مغاراتهم الباردة والمظلمة فيحاولون الخروج الى رحاب الحياة المنفتحة والمفتوحة على الابداع والانتاج والعطاء .
مجتمع الزيف حقيقة كل الشعوب التي رضيت بالقدر والقضاء ، ولم تتفاعل مع هذه النظرية ، وبقيت حبيسة تواكلها وانتظاريتها القاتلة ، حتى تمطر السماء ثروتها ويقدم لهم الحظ نصيبهم من الحياة . فالقضاء والقدر لايبقي لهما من معنى في ظل الاستسلام لطواحين الظلم والأنانية وعقدة التفوق والعظمة . ولا يأخذان معناهما الا في المحاولة المستميتة والجسورة للانسان في بحثه عن امكانيات أخرى تهجس بها طبيعته الانسانية باعتباره كائنا حالما وطموحا . ففي ظل الاستسلام المطلق لنظرية القدر والقضاء ، يبطل سعي الانسان ومجهوده وعطاؤه ، ولا يبقى منه غير ثبات وتمثال ، قد يكون أحيانا متحركا .
مجتمع الزيف مجتمع بطبيعته خائف متوجس ، نكوصي سلبي ، لايعتقد بالنقد والمساءلة ، لا تداخله الحيرة والدهشة ، انه مفروغ من ماهية الانسان ؛ باعتباره كائن يتمتع بجميع الحقوق الطبيعية ، كما يقول جون لوك ، لمن أعماه هوس الاسترفاد من الغربيين ، أو باعتبار كونه مؤمن ب " أن ليس للانسان الا ماسعى " ، لمن ينفتح على جميع الثقافات دون عقدة الخواجة بتعبير اخواننا المصريين .
مجتمع الزيف مجتمع عالة ، يعتمد في تمظهراته على المظاهر والشكلانية ، يخاف الأعماق والأغوار ، سطحي وسلبي ، انه ضد الروح واللب ، انه مجتمع لامتذوق ومستمتع ، لا يتلذذ ولا يستلذ ، كل ما تمنحه اياه يقبله بطيب خاطر ، حتى وان منحته السم يشربه هنيئا مريئا ، يتلوى في مكانه ، يتضور ، يتألم الألم الشديد ، واذا سألته يبتسم ابتسامة الموتى وينطوي على ذاته . هو قانع ، لكنه لا يعرف مفهوم القناعة ، لم يسأل نفسه يوما هل أستطيع قطف هذه الثمرة ؟ ان الشجر وارف وثمره يانع ، ولا حارس عليه ، فهو لي ما دمت أنا الوحيد الذي يحرسه ويرعاه . انه يخاف أن يقول هذا حتى في سره . لأنه منمط على طريقة لاترى ولا تسمع . انك عبد من عبادنا الصالحين ، في مفهومه الناسوتي طبعا ، وهذه هي لغة جلادي الأمة !!!!
مجتمع الزيف ، مجتمع تقليدي نمطي ، انه قالب اجتماعي .
وعي الذات لا يختلف عن وعي الاشياء -*- ، وعينا بذاتنا هو وعي الأشياء التي تحيط بنا ، وعي علاقاتنا بالآخرين ، وضعنا الاجتماعي والانساني ، فكلما كان وعينا بما نحايثه ونتماس معه ونتداوله راقيا ، كان وعينا بذاتنا راقيا . لكن حاصل وجودنا عكس هذه الحقيقة الوجودية ، فنحن احساسنا بالأشياء فاقد لأي حيوية وتفاعل . أحياؤنا عبارة عن مزابل ، مدننا مجرد زريبة ينتفع منها أوصياء الظلام ، أوطاننا سجون مفتوحة ،نعجز على السفر عبر شوارعها الطويلة ، حكامنا منافقون من العيار البواح ، مثقفونا مثقفو النعمة الذين يضعون على صدورهم "بادج " المثقف ،دون أن تسري في دمائهم روح المثقف القلق المنخرط في قضايا عصره ووطنه وشعبه ، وتبقى الشعوب !!!فاقد الشيئ لا يعطيه ، هذا ما يمكن أن نجمله حول شعوبنا .
ان مجتمعات الزيف يلزمها صدمة كبيرة لتقف على حقيقتها . فالزيف الذي تعيشه زيف تاريخي واجتماعي ، وتفاعلي ، والمقصود بالزيف التفاعلي ،هو هذه الصناعة اليومية والآنية التي تفتك به أينما حل وارتحل , الى درجة أصبح شبه مستحيل أن تميط كل أستار الزيف التي تغرق فيها هذه المجتمعات اليوم . فهي حين تخرج الى الشوارع لا تعيش الا زيفا مطلقا حتى الأدوات المنزلية التي تشتريها أصبحت جميعها مزيفة ، والشوارع التي تمشي فوقها مزيفة ، وحين تلتقي بأحدما من أصدقائك تجده مزيفا ، وعندما تسأله عن حاله يجيبك ، بخير والحمد لله ، رغم أن وجهه مكفهر وعبوس . واذا عاد الى المنزل يجد أسرته تعيش حالة نقصان هائل في جميع المستويات ، فينكفئ على زيفه وينام ، على زيف آخر ليصبح كائنا مزيفا .
المجتمعات الزائفة تخاف ولا تخجل ، لأن شخصيتها انفصامية ، فهي تقوم بجميع مظاهر العبادة كالصلاة والصوم ، لكنها تبطلها اثناء قيامها بهذه العبادات ، قبل أن تغادر المصلى او تنهي صيامها . لأنها لم تترسخ في وجداناتها قيم العبادة وعقائدها بقدر ما هي تؤدي طقوسا متوارثة ، ومظاهر تعطي بعض الصور الاجتماعية المطلوبة . الى درجة أننا نحكم على كل ملتحي بالتدين والورع ، بينما هو يقضي ليله في الحانات ، وينهب مال غيره . وعند الانتخاب يقوم جزء هام من الشعب على انتدابه حاكما ومسؤولا لأنه يرطن بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية .
المصدر : الحوار المتمدن