من حينها وأنا أقضي ساعات طوال شارد
البال ، ، حينما ألج الحمام لا أنتبه إلى أني قضيت به عشرا من الدقائق وأكثر ،
أسند يداي على الجدار وأعلق نظرتي بانعكاس مشروع دمعة من عيناي على المرآة . لا
أنتبه من كل شرود إلا على صوت أحدهم يجرني إليه نحو الواقع .
الواقع هو هذا الذي أقضي فيه القليل
اليسير من حياتي ، هذا الذي تجبرني عليه الضرورة الحيوية ، ، أجيئه كعصفور ، خفيفا
حتى من الخفة . أقفز إلى الكنبة كطفل صغير رغم عمري الذي شق الزمن شقا ، تتبسم لي
العجوز وهي تعاكسني بعبارات ترثي هرمها وتحتفل بقدرتي العجيبة على استرداد طفولتي
من الزمن الهارب . لكنها تعرف منذ القديم
أن قفزاتي تلك وقدرتي على التحرر من تلك الأثقال إنما هي علامة على أني ولدت الآن
فقط ومن لحظات ، عرفت بأن الواقع لم يكن محطتي القديمة كما يكونه الأمر مع أولائك
الذي يدخلونه بولادتهم ولا يغادرونه إلا بوفاتهم ، فأنا أغادر في كل حين نحو
الخيال ولا أعود إلا قليلا وقد صحت روحي وصارت أجمل .
الخيال هو حريتي الكبيرة ، تلك التي لا
تتسلط عليها الألسنة ولا تعريها النظرات ، تلك المساحة الوردية العبقة التي أقضي
فيها ساعات دون أن تعنيني مزاجية بقية الخلائق التي قد تقلب الهدوء ضجيجا .
احترفت الكتابة ، وكنت أجول لساعات
طوال في أماكن عظيمة أبنيها بنفسي في فضاء أوسع لا يراها إلا قليلون ، أحرر هواجسي
بتحريري لتلك الأبطال التي أختلقها بيومياتها السعيدة والحزينة . كنت أقضي الساعات
الطوال داخل الغرفة الصغيرة وسط الحديقة التي رعتها زوجتي ،- وأنا أحملق في بياض
الورقة منتبها إلى حفلات الرقص التي تحييها الشخوص الخيالية الكثيرة الساكنة
والعابرة . أجر قلمي في انسجام مع ما تشتهيه البطولات.
كنت أخط محاولة أخرى في نفس المكان
وعلى نفس الطاولة التي قضيت عليها عشرين سنة من عمري . نظرت خارج النافدة محاولا
أن أستوعب الحديقة تم البيت من دونها ، لم أستوعب ، فعدت بعيني أدراجهما نحو
البياض المنتظر في ارتباك عودت قلمي تم الحياة إليه . غرست أناملي في شعري الكثيف
المنفوش ، أغمضت عيناي مستجمعا شتاتي . فكتبت الفصل الأوسط من القصة منتشيا بحزن
وفاتها ، حاولت أن أوصل البطل إلى محطته التالية كما حاولت أن أتناسى أن حبيبتي
التي كانت تقرأ أول ما أخط قد رحلت فأصاب اليتم أوراقي كما أصابني . ارتعبت فتوقف
القلم ، هوى ثقل جسدي عليه فانكسر . في اندهاش كأني لم أكن معنيا بما حصل نظرت إلى
الورقة تم إلى السطر الذي كتبته فأرعبني ما رأيت ، كان البطل هنا وعند هذا الحد قد
مات ، في منتصف القصة دون أن ينتظر قليلا حتى تتضح المعالم.
تطرق ابنتي باب الحمام ، أنتبه من
شرودي فأرفع جبهتي عن المرآة ، أرش بكثافة عيناي بالماء البارد عسى تنطفئ الحرائق
بهما . كيف ارتكبت هذا الجرم ؟ كيف قتلت بطلي في منتصف القصة ؟ كنت أسأل نفسي هذه
الأسئلة في صوت خفيض . أفتح الباب ، تنظر ابنتي إلى عيناي ، ترتمي علي تعانقني ،
وهي تقول " شرودك يفزعني أبي ، أمي
ماتت ويجب أن تستأنف الحياة من أجلي ومن أجلها ...
بقلم عصام بقسيم