أرقه أمر الترياق ، فلم ينم حتى لثانية من ليله الطويل . مسمرا عيناه فيها تارة وفي ضوء الشمعة الخافت المتراقص تارة . يهمس بحيرته لخيط الدخان الرفيع المتصاعد حتى التلاشي . يضع يديه في جيبي منامته ، أولا بدافع تدفئتهما ، تم تاليا بدافع تعذيب الذات ، إذ بهذه الحركة تعود إليه صور اليوم الذي عرف انه لا يقدر على دفع فاتورة إبقائها في المستشفى حتى تشفى . تعيد إليه صورة وقوعه على ركبتيه جاثما على الأرض يقبل قدمي الطبيب الذي حسم كما قد تفعل الآلهة في حياتها .
تسمع أنينه دون أن تكون قادرة على إخباره ، ودون أن يكون قادرا على سماع صرخاتها من هناك . ماذا كانت اللغة لتفعل حتى إن فهمت ؟ بالمعايير الواقعية هو هنا حي وهي هناك في استلقاءها ميتة لا رجاء من عودتها . كانت تود أن تخبره أن لابأس ، أن يتوقف عن ذرف الدموع على أحجية يوم مضى وانتهى . كانت ترغب ان تخبره أن الاستسلام لا يعني دائما الهزيمة ، فهو كذلك قرار حكيم بمواصلة المشي والابتعاد ، لدى أحبت لو أن شفتاها وعيناها تتحركان رغم هذا التصلب الذي شلها لتخبره أنها هي بذاتها قد سئمت من الترياق الذي لا يفعل شيئا سوى تعليقها بين عالمين ، فلا هي هنا ولا هي هناك .
يستعيد حديث الصباح مع الدكتور ،، ما عاد الدواء العادي يفيدها ، يجب أن يستعمل الترياق الآخر ، ذاك الذي يبلغ سعره كذا وكذا ،، ذاك الذي يعين أبناء الأكابر على استقرار حالاتهم ،، ذاك الذي يوصف بالندرة . كانت لكنة ناصحه شبيهة بتلك التي خاطبه بها الطبيب يوم نقلها على وجه السرعة إلى المستشفى ،، أن يدفع الملايين حتى يجري لها العملية المستعجلة ، تلك الملايين التي لم تكن بحوزته لتدفع ،، تلك الملايين التي لو كانت لما سرقتها الغيبوبة بعيدا عنه .
يتلون الأفق في النافذة ببعض الوضوح ، يباشر الصباح دوامه .. يقترب منها ، يبصم على جبينها القبلة الصباحية ، يغادر المنزل ليبحث عن صرفة مع الترياق الجديد ، بينما صوتها بلى جدوى يصدح في الدواخل " دعني أرحل ، دعني أرحل ... " ..
بقلم عصام بقسيم