أسطورة التّوأمين والتّاريخ الدّموي في الإسلام / سعيد ناشيد



التوائِمُ، نذير شؤم عند كثير من الشعوب القديمة، علامة على التدافع والتصادم الذي شهده رحم الأمّ، ودليل على أنّ أيّ طرف لم يقبل أن يتنازل للآخر عن فضاء الرّحم، والذي لا يسع في الأصل لأ
كثر من ذات واحدة. لذلك كانت معظم الحكايات القديمة تنتهي بمشهد قتل الأخ لتوأمه، أمام دموع الأمّ الثكلى، والتي قدّر لها أن تشهد الفصل الأخير لحرب دارت أطوارها الأولى داخل رحمها.
في إحدى الأساطير المؤسّسة للإمبراطورية الرّومانية في الغرب، اتّفق الأميران التوأمان رومولوس وريموس على بناء مدينة روما، لكنهما اختلفا حول من سيحكمها، فقتل رومولوس توأمه ريموس، لينفرد بالحكم، ومن دماء تلك الجريمة الأصلية، نشأت مدينة روما والإمبراطورية الرّومانية، ومعهما حضارة الغرب.
وفي الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، نشأت حضارة الإسلام، انطلاقاً من أسطورة مماثلة تستعيد بطريقتها حكاية الصدام الأبديّ بين التوأمين، مع فارق أساسيّ؛ أنّ صدام التوأمين في الغرب، حسم منذ البداية بمقتل أحدهما، أمّا في الإسلام، فقد تقرّر تأجيل صدام التوأمين لتتوارثه الأجيال لعدّة قرون، ومن ثمة تتعذّر كلّ تسوية.
تعود بنا الحكاية إلى ما قبل الإسلام بزمن طويل، إلى ليل الأزمنة الغارقة في ظلمة رحم التاريخ، قبل أن ينبلج صبح الكتاب والقلم وما يسطرون. ربما كان مبتدأ الحكاية ما ترشح به الذاكرة العربية، عن قصيّ بن كلاب، أشهر زعماء مكّة قبل الإسلام، فقد كان أوّل العرب الذين قاربت زعامتهم لمكّة، مستوى الملك المُطاع، كما يقال، وذلك في أعقاب انتصاره على صوفة، وهي أيضاً من أشهر القائدات والزّعيمات العربيات قبل الإسلام.
يروي المؤرّخون القدامى، أنّ قصيّاً كان سيّد قريش وقد حقّق فيهم "مُلكاً أطاع له به قومه، فكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء1، " فكان أمره في قومه كالدّين المُتبع في حياته وبعد موته"2.
أنجب قصيّ أربعة أبناء، كان من بينهم عبد مَناف، وقد ورث عن أبيه الزّعامة على العرب، وأنجب عبد مناف، بدوره أربعة أولاد، وهُم: هاشم، المطلب، عبد شمس ونوفل.
يروي الطبري، في تاريخه، أنّ هاشماً وعبد شمس كانا "توأمين، وأنّ أحدهما وُلد قبل صاحبه، وإصبع له ملتصقة بجبهة صاحبه، فنحّيت عنها فسال من ذلك دم، فتطيّر من ذلك، فقيل: تكون بينهما دماء"3؛ في هذه اللحظة بالذات، شهدت المنطقة العربية هي الأخرى، صدام التوأمين، الجريمة المؤسّسة للتاريخ الدّموي في الإسلام.
كان أبناء هاشم وأبناء عبد شمس، فيما يرويه الطبري، مُتقاسمين رياسة قريش، في حين أنّ بني المطّلب أحلاف لبني هاشم، وبنو نوفل أحلاف لبني عبد شمس4.
وبين أبناء هاشم وأبناء عبد شمس، ستكون ثمّة دماء امتدّت على مدى التاريخ العربيّ والإسلاميّ، إذ سينجب عبد شمس ولدًا اسمه أميّة، وستكون بين البيت الهاشميّ والبيت الأمويّ دماء حاسمة في تاريخ الإسلام.
يُحكى أنّه لمّا "ولي هاشم بعد أبيه عبد مَناف ما كان إليه من السقاية والرفادة، فحسده أميّة بن عبد شمس على رياسته وإطعامه، فتكلّف أن يصنع صنيع هاشم، فعجز عنه، فشمت به ناس من قريش، فغضب ونال من هاشم ودعاه إلى المنافرة… فلم تدعه قريش حتى نافره على خمسين ناقة والجلاء عن مكّة عشرين سنين، فرضي أميّة، فجعلا بينهما الكاهن الخزاعي… فقال الكاهن: والقمر الباهر، والكوكب الزّاهر، والغمام الماطر، وما بالجوّ من طائر… لقد سبق هاشم أمية إلى المآثر، أوّل منه وآخر…"5.
هذا الأسلوب السجعيّ، كان يعدّ مَعبر الحقيقة الإلهية عند العرب، وكان كاهن مكّة يلتزم به باعتباره القناة السرّية للحقائق التي قد ترشح بها عوالم الغيب، بين الفينة والأخرى، بسبب أو من دون سبب، وهي التجربة التي لا يمكننا أن نغضّ عنها الأبصار، إذا ابتغينا أن نفهم ما يسمّى بظاهرة الإعجاز اللغويّ في القرآن.
بَعد هاشم ثمّ أخيه المطلب، سيتولّى عبد المطلب بن هاشم (جدّ الرّسول) ولاية السقاية والرفادة، وعقِب أمية، سيتولّى سفيان بن أمية ولاية الحرب.
وستمتدّ الحكاية إلى ما بعد ظهور الإسلام، حيث أنه وبعد ظهور النبوّة في البيت الهاشمي، قاد أبو سفيان البيت الأموي في مواجهة البيت الهاشمي… وبعد انقضاء فترة النبوة وخلافة كلّ من أبي بكر وعمر، عاد التدافع بين البيتين الهاشمي والأمويّ إلى الواجهة، من خلال المواجهة الكبرى بين عليّ بن أبي طالب (الهاشمي) ومُعاوية بن أبي سفيان (الأموي).
بعد ذلك حدث انقلاب داخل البيت الأمويّ، إذ أنّه وفي خطاب توليه للخلافة، فاجأ الخليفة الأمويّ الثالث، معاوية بن يزيد، الجميع، عندما قام ليدين استيلاء آبائه على السلطة، معلناً براءته منهم وانسحابه وتخلّيه عن كرسيّ الخلافة، داعياً إلى جعل الأمر شورى بين المسلمين، ممّا أوجد فراغاً مفاجئاً في أعلى هرم السلطة، وهكذا استغلّ بنو مروان، وهم فرع من فروع البيت الأمويّ، ذلك الفراغ، ليقفزوا إلى قيادة البيت الأمويّ، بل والخلافة الإسلامية برمّتها.
وقد شهد البيت الهاشمي، في المقابل انقلاباً مماثلاً، إذ قفز بنو العبّاس، وهم من أقوى فروع البيت الهاشميّ، إلى موقع قيادة البيت الهاشميّ، مدشّنين بذلك عهد الخلافة العباسية، والتي كانت بمثابة مرحلة جديدة من الجرح الغائر في التاريخ السياسي للإسلام، لكنها لم تكن الفصل الأخير من الحكاية.
من أسطورة التوأمين، إلى التاريخ الدمويّ في الإسلام.. يستمرّ اجترار الحكاية..
الهوامش: 1 - تاريخ الطبري، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت،1997، المجلد الأول، ص:507 2 - الكامل في التاريخ، ابن الأثير، دار إحياء التراث العربي، بيروت،1996، المجلد الأول، ص:460. 3 - تاريخ الطبري، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت،1997، المجلد الأول، ص:504 4- تاريخ ابن خلدون، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، المجلد الثاني، ص:376. 5 - الكامل في التاريخ، ابن الأثير، دار إحياء التراث العربي، بيروت،1996، المجلد الأول، ص: .457

قالب تدوينة تصميم بلوجرام © 2014