هنا تركيا ماذا يجري؟ / توفيق بوعشرين



هنا بلاد تولد ودولة تدفن، للذين يفضلون العنوان على قراءة النص هذا يفي بالغرض. هذه أوراق أكتبها من تركيا، حيث دعيت رفقة 9 صحافيين عرب للاطلاع على تجربة تركيا في كل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والدبلوماسية... ولاكتشاف حجم التغيير الذي تعيشه هذه البلاد التي يعرفها المواطن العادي من خلال المسلسلات المثيرة والرحلات السياحية التي اصبحت موصى الطبقات الوسطى في المغرب ، والتي يحس الكثيرون بأن بها شيئا يتحرك، ما هو؟ وكيف حصل؟ هنا نحاول الاقتراب من هذا الجواب...
قصة النجاح التركية عمرها عشر سنوات لا أكثر، وخلال هذه المدة القصيرة في حياة الدول نجح حزب العدالة والتنمية، بزعامة رجب طيب أردوغان، في وضع تركيا في مصاف الدول السائرة في طريق التقدم، وإليكم عدد من المؤشرات على هذا التقدم، وعلى القطيعة التي وقعت في سياسة هذه البلاد التي كانت في ما مضى إمبراطورية تحكم جغرافيا لا تغيب عنها الشمس، قبل أن تمرض وتموت قبل قرن من الزمن.
انتقل معدل دخل الفرد السنوي في تركيا من ثلاثة آلاف دولار قبل عشر سنوات، إلى 11 ألف دولار اليوم. هذا معناه أن مستوى عيش الناس تحسن بأكثر من ثلاث مرات في ظرف عقد من الزمن. «دخل أكبر يعني مشاكل أقل»، يقول أحد المسؤولين الكبار هنا في أنقرة.
الجيش التركي الذي كان، لمدة 80 سنة، يتحكم في كل مفاصل الدولة، رجع إلى ثكناته، وهو الآن خارج المعادلات السياسية والاقتصادية، وأصبح دوره ينصب على حماية الدولة خارج الحدود، وترك السياسة للسياسيين والأحزاب وصناديق الاقتراع. الشيء نفسه يمكن قوله عن المحكمة العليا التي كانت مسيسة وتابعة للجيش، الذي كان ينصب نفسه وصيا على العلمانية والإرث الأتاتوركي، هذه المحكمة التي منعت الأحزاب الإسلامية مرارا، ومنعت أردوغان نفسه من الترشح للانتخابات في 1998 بتهمة التحريض على الكراهية، أصبحت خارج المعادلة السياسية.
نجح الانتقال الديمقراطي في البلاد بشكل ملموس، وشهدت تركيا ثلاث ولايات برلمانية، وأكثر من تعديل دستوري دون مشاكل كبيرة، وحتى محاولات الانقلاب التي كانت بعض أجنحة الجيش تنوي القيام بها فشلت، وحوكم الواقفون خلفها، وذلك دون تدخل من قيادة الجيش ولا من الشارع. والآن البلاد على وشك إجراء تعديل دستوري جديد لتغيير شكل النظام، والتوجه إلى نظام رئاسي على الطريقة الأمريكية، مع الانتقال إلى نظام برلماني يضمن تمثيل الأقليات الكردية والعلوية والمسيحية والأرمينية وغيرها، والتي كانت تذوب في النظام الانتخابي الأغلبي الحالي.
دبلوماسيا، تجني تركيا الآن ثمار نجاحها السياسي، حيث إنها صارت عضوا كامل العضوية في نادي الدول الديمقراطية، نعم مازالت فيها مشاكل وصعوبات وتجاوزات ترصدها المنظمات الحقوقية الداخلية والخارجية، لكن انتخاباتها نظيفة، وحرية الرأي والتعبير فيها مكفولة، والمؤسسات تسير على سكة المشروعية، أو كما يقول المثل التركي: «مشاكل القافلة تُحل أثناء الطريق»، وتركيا اليوم تسير نحو الانفتاح على العالم العربي، وتشجيع دول الربيع فيه على الانتقال، وبسرعة، إلى دولة المؤسسات، وهذا ما يفسر موقفها من سوريا الآن، ومعارضتها الشرسة لاستمرار الأسد في قتل شعبه. نعم لتركيا مصالح في هذا العالم العربي، الذي ليست له قيادة اليوم، لكن منظّر الدبلوماسية التركية، داوود أوغلو، يقول اليوم: «إن تركيا تقود دبلوماسية إنسانية تتعايش تحت سقفها الأخلاق والمصالح، وإن التعارض ليس حتميا بينهما».
25 في المائة من تجارة تركيا اليوم مع العالم العربي، وقد ازدادت بـ60 في المائة عما كانت عليه قبل سنوات قليلة. ليس هذا فقط، واردات تركيا من البلاد العربية جلها مواد خام، في حين أن أغلب صادراتها مواد مصنعة، أي تجارة وقيمة مضافة، صناعة وابتكار، رقم معاملات وهامش ربح كبير.
قبل مجيء أردوغان إلى الحكم في تركيا كان الرجل المريض في الشرق يعاني ثلاث مشكلات كبرى: استبداد عسكري كان يضع على عينيه نظارات أمنية، وبها يرى كل شيء يتحرك، وفساد كبير يستشري في الدولة ويمنع النمو من الحركة، والاقتصاد من الازدهار، ثم حرب مفتوحة مع الأكراد، الذين كانوا يحلمون بالانفصال عن الدولة القومية المتصلبة التي قمعتهم، وهمشت لغتهم، وطردت هويتهم من المجال التركي العام.
الآن الجيش دخل إلى ثكناته، ولم يعد يلبس سوى قبعة واحدة، والفساد تراجع إلى حد كبير، والدولة أصبحت ورشا مفتوحا وشريكا اقتصاديا مهما للصين ولأوربا وإيران وسوريا، والجمهوريات الإسلامية التي خرجت من تحت مخالب الدب السوفياتي، أما المشكلة الكردية فإنها لم تحل كليا، لكنها أصبحت أقل بكثير مما كانت عليه، وحزب pkk ألقى بالسلاح، وأضحى حزبا سياسيا يطالب بحقوق الأكراد في ظل الدولة التركية الديمقراطية، والدولة الآن تحاور هذا الحزب وقائده أوجلان، الذي كان يسميه الحزب قاتل الأطفال، وفي الوقت نفسه جرى الاعتراف بأن للأكراد حقوقا ثقافية وهوياتية واجتماعية، وأن من حقهم أن يعيشوا كأكراد في الدولة التركية التي كانت ترى في الكردي تهديدا أمنيا.. هذا صار من الماضي. ألم نقل إن الوطن الأكثر دخلا مشاكله أقل.
❊ مدير نشر "أخبار اليوم المغربية"

قالب تدوينة تصميم بلوجرام © 2014