أماكن



نحن بنو البشر ننزع إلى البحث عن فرصة لخلق علاقات مع بقية الأشياء المحيطة بنا ، علاقات مع المحسوس والمجرد ، مع القريب والبعيد ، ومع الواقع والخيال ... مع كل شئ ،
المكان ، كم من أمكنة عالقة في ذاكرتي تصر على الحضور رغم أن الزمن اغتالها ، أو اغتال صورتها . وكم من أمكنة تزعجني وترعبني تهزم كل المحاولات المبذولة لردمها ، وكم من مكان أطارده في رائحة هروبه التي تصادفني في أمكنة أخرى ، .. ويكاد المكان يكون إنسانا ، أو ربما هو كذلك .
حينما زرت هذا المعبر الذي تجتمع فيه حشود الرجال المدفونة في جلابيب غليظة غلظتهم ، حيث ينزلق صقيع البرد على بشرة بنية ملساء قاسية ، نظرت إلى البناية المربعة ، البرج الصغير الذي سمرت تحثه يوما ما ، من أيام آحاد ماضية منتظرا أن ينتهي فصل يوم تسوق حتى أستأنف العبور . كنت ألاعب الحجر ، أقاوم سوط الملل هناك ، أقرفص وأنا شاعر بالأمان ، كأني أمتلك درعا تقيني من سهام الوحدة ، تلك التي يأتي بها هذا المكان وحده ، أو على الأقل حيث ابتدأت يوما لتجول في بقاع الأرض غارسة بدور الاغتراب .  كنت أنظر إلى ذاك المكان ، مسترقا النظرة في خشية ورغبة ، خشية من المستحيل ورغبة جامحة في عناق كامل متحرر .
للأماكن سحرها العظيم ، فكل بسمة و دمعة وحركة وسكون ، فكل نفس وكل اشتياق ، كل ملل ، كل انتماء ، كل تلك الأحاسيس المتبخرة منا إلى السماء ، كلها تجتمع لتسقي الجدران والأسقف والبنايات ، والشوارع والأزقة ، - لتسقيها – عبقا سريا منسيا ومنحوتا لزمن سيأتي في روحنا العميقة . آه ، تلك الرائحة هي دعوة منتشية بالهروب إلى الأماكن . لكن الأرواح الكثيرة التي رحلت عن الأمكنة تحفر بغيابها  رهبة في كل جدار ، هذا ما نسميه طللا.

                                                                           بقلم عصام  

قالب تدوينة تصميم بلوجرام © 2014