نحن بنو البشر ننزع إلى البحث عن فرصة لخلق علاقات مع
بقية الأشياء المحيطة بنا ، علاقات مع المحسوس والمجرد ، مع القريب والبعيد ، ومع
الواقع والخيال ... مع كل شئ ،
المكان ، كم من أمكنة عالقة في ذاكرتي تصر على الحضور
رغم أن الزمن اغتالها ، أو اغتال صورتها . وكم من أمكنة تزعجني وترعبني تهزم كل
المحاولات المبذولة لردمها ، وكم من مكان أطارده في رائحة هروبه التي تصادفني في
أمكنة أخرى ، .. ويكاد المكان يكون إنسانا ، أو ربما هو كذلك .
حينما زرت هذا المعبر الذي تجتمع فيه حشود الرجال
المدفونة في جلابيب غليظة غلظتهم ، حيث ينزلق صقيع البرد على بشرة بنية ملساء
قاسية ، نظرت إلى البناية المربعة ، البرج الصغير الذي سمرت تحثه يوما ما ، من
أيام آحاد ماضية منتظرا أن ينتهي فصل يوم تسوق حتى أستأنف العبور . كنت ألاعب
الحجر ، أقاوم سوط الملل هناك ، أقرفص وأنا شاعر بالأمان ، كأني أمتلك درعا تقيني من
سهام الوحدة ، تلك التي يأتي بها هذا المكان وحده ، أو على الأقل حيث ابتدأت يوما
لتجول في بقاع الأرض غارسة بدور الاغتراب .
كنت أنظر إلى ذاك المكان ، مسترقا النظرة في خشية ورغبة ، خشية من المستحيل
ورغبة جامحة في عناق كامل متحرر .
للأماكن سحرها العظيم ، فكل بسمة و دمعة وحركة وسكون
، فكل نفس وكل اشتياق ، كل ملل ، كل انتماء ، كل تلك الأحاسيس المتبخرة منا إلى
السماء ، كلها تجتمع لتسقي الجدران والأسقف والبنايات ، والشوارع والأزقة ، -
لتسقيها – عبقا سريا منسيا ومنحوتا لزمن سيأتي في روحنا العميقة . آه ، تلك
الرائحة هي دعوة منتشية بالهروب إلى الأماكن . لكن الأرواح الكثيرة التي رحلت عن
الأمكنة تحفر بغيابها رهبة في كل جدار ،
هذا ما نسميه طللا.
بقلم عصام