يهرب الجميع من الوطن ، كما يهرب الناس من الغول . تم يعودون محملين
بالذبائح اللازمة للتكفير عن شئ ما ، قد يكون عن هروبهم الأول أو ربما عن عودتهم
الأخيرة أو فقط للتكفير عن حظهم السيئ الذي ربط تاريخهم بوطن من هذا القبيل .
الهروب ليس فقط جريا أو هرولة نحو البعيد ، بل الهروب قد يكون أقسى وأعمق
من ذلك حينما يكون هروبا داخليا ، عبر العاطفة . أن تكون مستلقيا في فراشك داخل
الوطن دون أن تكون هناك فعلا ، ، الهروب الذي يجعل الوطن وقلبك يتنافران ويبتعدان
ويتسع الفضاء بينهما كما يتسع الكون كل لحظة .
كنت أقف قبالة السفارة الفرنسية حينما انتابت فرحة هستيرية مفاجأة فتاة
تسلمت جواز سفرها المختوم بالفيزا ، أخيرا ستهرب كما هرب كثيرون وكما يهربون
وسيهربون . تسلمت بدوري جواز السفر ونظرت إلى الصفحة حيث الخاتم . رفعت نظري إلى
الرجل الجالس خلف الزجاج ، ذاك الذي استأنف الشق الآخر من عمله ، وضح لي بأن
الرجوع إلى السفارة لتسجيل الدخول إلى أرض الوطن بعد انتهاء السفرية أمر مهم لا يجب أن أنسى تبليغه . أومأت برأسي تم أقفلت
عائدا إلى السيارة حيث كان رفيقي ينتظرني . وقبل أن تنحشر قامتي في السيارة الملتهبة
التهاب هذا الفصل بادرني بالسؤال المتوقع ، " نعم ،.. " أجبت . أخد
الجواز متأملا الخاتم ونحن في طريق العودة .
الكل يحلم ، ، الأحلام طريقة للهروب من الواقع ، لرسم معالم الحياة
المرغوبة . لكن انتفاخ الأحلام ، تراكمها وتناسلها المفزع ينم على أنها علامة مرض .
يقولون بأن المرض الذي يتم إهماله في المراحل الأولى قد يتحول إلى مرض خبيث ، صعب
المداواة . تراكمت الأحلام ، فهل هي أصل المرض المستشري في الجسد ؟ الأصل الأول
الذي انتهى إلى هذه الحالة من الارتياب التي حلت بالجميع ، حتى بات الهروب نوعا من
الشجاعة والشهامة ؟ هل بقي على هذه الأرض شخص لم يهرب ؟
سلمت جواز السفر للعجوز وأخبرتها بأني لم أواجه صعوبة في استلام جوازها دون
حاجة لأن تكون حاضرة ، تم أخبرتها بما أخبرني به الموظف خلف الزجاج . يجب أن تلتحق
بالسفارة حال عودتها من فرنسا ، إنه إجراء روتيني لحصر حالات الهروب المادية . أما
الهروب الآخر ، ذاك الذي ثملنا فيه فلا يمكن تقييده في الدفاتر ولا حصره بالإحصائيات لأن الجميع هارب بهذا
المقياس .
سمعت حكاية لا أعرف إن كانت حقيقية أم لا لكنها تحمل روحا ما . روحنا .
وتقول القصة بأن أحدهم التقى صدفة بالملك كما قد يلتقي به أي مواطن آخر أو كما
التقى به الكثيرون في مكان ما من ربوع هذا المكان المترامي ، هذا الوطن . وجرت
العادة على أن من يلتقي بالملك يحظى بفرصة ذهبية في الاستجابة لطلب قد ينقده من
البؤس . لكن الطلب كان غريبا ، أو بالأحرى كان عفويا وعميقا وصادما ، لقد طلب
المواطن من الملك أن يمكنه من الهجرة إلى اوروبا ، أن يساعده على الهروب ... هنا
انتهت أهمية الحكاية بالنسبة لي ، فالذي يهم ليس نهايتها بالنسبة لمن يحكيها ،
إنما لبها فقط ، أو بالأحرى قيمة الهروب التي تجدرت في النفوس إلى حد أصبحت معه
روحا لأي حلم من أحلام مواطني هذا البلد .
كانت تقطن قرية من القرى الجنوبية لهذا الوطن ، في كل مرة أزورها هناك كنت
أغبطها . فأن تعيش في قرية مثل هذه وبين أناس كهؤلاء وفي سن كسنها أمر لا يمكن إلا
أن يجعلك تطير سعادة وفرحا . كان ذلك قبل سنوات عديدة ، وبين الحين والحين في
عطلات الدراسة الثانوية أرافق صديقي الذي هو ابنها لأزورها وأقضي هناك يوما بل وأيام . كانت تبتسم
تلك الابتسامة الكاملة الطاهرة ، تلك التي ما إن نراها على وجه أحدهم حتى نعرف
بأنها نابعة من الأعماق ، من القلب ومن الروح . لم يكن الأوان قد حان لتتعرف على المدن
البعيدة وناسها ، ولا على أن تصافح خرائط العالم وتتحسس مدى سعتها . ولم تكن في
حاجة لذلك حينها ، لأن قريتها كانت أوسع في نظرها وخاطرها من كل الدنيا ، وكان
بيتها عالما أعظم من كل عالم . أمسك بيداي رأسها وأقبله ، أتعمد بعض التأخير في
قبلة الرأس تلك ، كأنني بذلك أتسلم منها بعضا من عبق القرية وهناء روحها .
أطنب في وصف شعوري حيال الأمر برمته لابنها البكر ، أحدثه عن حظهم الوافر بهذا القدر من السلام
والمحبة الذي يعيشون فيه . يبادلني صديقي ببسمة أعرفها . كان قد حسم الأمر وقرر ما
قرر . فمنظاري إلى الحياة كان متأخرا وساذجا بالنسبة له . هذا الوطن لا يمنح فرصة
لأحد حتى ينتمي إليه ، وهذه القرية جزء من البؤس ، بل من تاريخ البؤس بعد أن ينقله
الهروب إلى الحقيقة بدلا من أكوام الوهم . الهروب بالنسبة له أخد صورة عقد القران
من شقراء فرنسية .
لا يرغب أحد في خيانة الوطن ، ولا
أحد يخونه . الوطن يخون إذا رغب في ذلك ، ، وحينما يخونك الوطن تبحث أنت عن الهروب
قبل أن تبزغ بدرة الخطيئة في قلبك .
جلست صباحا في المقهى البائس ، كنت
أتنقل بنظري بين الوجوه الثلاثة الموزعة على بقية الطاولات . امتلأ المقهى دو
الأربع طاولات وأي زبون جديد يدخل إلى هنا سيقاسم أحدنا طاولته . كان الثلاثة
شاردي الذهن ، أحدهم ينفث دخان سيجارته بينما الاثنان ينفثان دخان أنفاسهم الدافئة
التي يطفئها برد صباح قارص . تجمدت تفاصيل وجوههم ، وتعرت فيها مأساتهم ،
فالهروب كان باديا هنا أيضا . حينما فاجأتني وقفة النادل أمامي بشفتين ترتجفان
الجملة التي يحفظها كل نادل ، اكتشفت الجواب
الذي كان طيلة السنوات الأخيرة مختفيا عني ، وماثلا أمامي .
كنت سعيدا إلى اليوم الذي قررت فيه بنفسي أني لست كذلك ، إلى اليوم الذي
نصبت فيه هذا الوطن ظالما في حقي . سعيدا في وحدتي إلى أن أحببت . أن أستسلم في
تلك اللحظة لمسار يقذفني في سلسلة المعنى
المقبول للحياة ، حتى أكون مقبولا من المجتمع الذي يعيش الفقر ويأمل الفقر .
كنت سعيدا حينما كان العالم مبنيا في نظري على معايير قناعة شخصية ، ويوم
انزلقت رجلي نحو الهروب وأضحى العالم ينساق للهوية المتهرئة اشتعلت كل أوراقي .
يهرب الجميع من الوطن لأني فقدت الإيمان بقناعاتي واستبدلته بالهروب .
...
...
بقلم : عصام بقسيم