لا أدلة تسعفه على إتهام المستقبل ، لا شئ إلا الوحدة وسكون يحرض الأفكار السوداء لتقع على الرأس فتحيله إلى جلاد يتفنن في تعذيبه ...
حينما تسأل الأم عن حصيلة اليوم تبدو طلاسيم وجهه أكثر إرتياحا لتخفي معركة دامت أطول و أثقل مما إعتقد لأول وهلة . وجه يتقن إدعاء الفرح حتى في أحلك الأحيان ، إنه أشبه بلوحة الجوكاندا تمتلك خيطا رفيعا بين الحزن والسرور فتمنح لقرائها الإنطباع الذي يودونه ، وها هو وجهه لا يتوانى عن إظهار الإنطباع الذي ترجوه الأم .
منذ أن سلمه الطبيب تلك الشهادة اللعينة التي تنهاه عن ركوب البحر ، لم يجد ما يسد به رمقه ورمق والدته . هي المهنة الوحيدة التي تعلمها وأفنى عمره فيها ، فكيف يأتي يوم يرفضه فيها أصحاب السفن ؟ ... نعم لقد داع خبر الشهادة تلك .
نصائح الجيران والأصحاب يركنها في خانة الخيانة ، فليس هو من يلزم البيت أو يسافر بعيدا حيث الرطوبة أقل ...
أصر على البقاء ، وهكذا صار . كل صباح يمني النفس بالنجاح في إصطياد سمكة أو أكثر بسنارته المهترئة ومن على الجرف القريب من بيته . ينتظر الساعات الطوال لعل سنارته تفي بالوعد ، ويراقب من هناك أساطيل الصيد من دونه تبحر .
يمر اليوم تلو الآخر ، والخيبة تلو الأخرى . لم يتقن الصيد بالسنارة كما كان يفعل بالشباك في أعالي البحر على نغمات الأناشيد التي تنطلق من أفواه البحارة في تناغم مع صوت البحر .
زمن وولى ...
لكن الوحدة وطقوس الحياة على الجرف الشاهق أبحرا بتفكيره نحو صلب الذات .
... لعل خبر مرضه ذاع في البحر بين الأسماك كما ذاع بين البحارة ، كانت تلك هي الوسوسة التي تطوله في إنتظار رسول يحرك خيط السنارة الغارقة في الماء ... الغارقة في النسيان .
عصام