علوم الأديان هي الوحيدة الكفيلة اليوم بجعل الإسلام
متحضراً، أي متصالحاً مع حاجات ومتطلبات عصره مثل حوار الأديان. ولا شيء كحوار
الأديان، لتجاوز الولاء والبراء المنغلق على نفسه والذي يعتبر حوار الديانات
الأخرى كفرا. ولا معنى لهذا الحوار إذا لم يشارك فيه أكثر من نصف البشرية:56 %من معاصرينا
الوثنيين. وهذا ما بدأ يعيه فرقاء هذا الحوار. فقد أَشركوا، في مؤتمر حوار
الديانات التوحيدية، ممثلي الديانة البوذية، التي هي اليوم من أكثر الديانات
أتباعا وتسامحا. إذ تسمح للمؤمنين بها باعتناق أي دين آخر شاؤوا مع بقائهم بوذيين.
هذه الروح البوذية المتسامحة والمسكونية (أي العالمية) كانت قوام الإسلام الأول، ونصت عليها كثير من الآيات الكريمة، مثل "والذين يؤمنون بما أُنزل إليك وما ُأُنزل من قبلك". وبهذا المعنى فالمسلم هو في الوقت ذاته يهودي ومسيحي وصابئ، لأن هذه الديانات جميعا طريق للخلاص الروحي للمؤمنين بها، مصداقا للآية 69 من سورة المائدة: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابؤون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون". فهذا الوعد القرآني يعتبر الأديان المعروفة آنذاك طريقا للخلاص الروحي. لكن هذه الآية، كالآيات الأخرى التي تتعارض مع التوسع الإمبراطوري، على حساب الديانات الأخرى، نسخها فقهاء النرجسية الدينية، فقد نسخوا 75 آية، اعترفت بالحرية الدينية وحرية الضمير والتسامح الديني وحوار الأديان، بآية واحدة وحيدة قرؤوها كعادتهم قراءة حرفية هي "إنما الدين عند الله الإسلام".
وهذه جرأة فقهية ترقى إلى مرتبة الفضيحة: آية سجاليّة تنسخ عشرات الآيات التي أسست للتسامح الديني الضروري، خاصة لعصرنا: عصر حروب الأديان المعلنة أو الكامنة! وعلى مدرسة المعقول الديني اليوم أن تنسخ النسخ، وترد الاعتبار لآيات الحرية الدينية المتطابقة مع العقلانية الدينية وحقوق الإنسان. وهو إنجاز حققه الإسلام الصوفي بنسخه النسخ. سجل ذلك المتصوفة في شعر جميل، مثل عبد الكريم الجيلي القائل، منذ حوالي 6 قرون:
"فطوراً تراني في المساجد راكعاً / وطوراً تراني في الكنائس راتعاً
إن كنت في حكم الشريعة عاصياً / سأكون في حكم الحقيقة طائعاً"
الجيلي، لا يبالي بحكم الشريعة النرجسية الملتفة على نفسها كعمامة. الحكم الوحيد الذي يرتضيه، هو حكم الحقيقة الصوفية، الحقيقة الروحية التي نلتقي بها في كل الديانات، بما فيها الوثنية، وفي كل أنساق التفكير بما فيها الإلحادية. كما يقول ابن عربي أيضاً:
"لقد كنت قبل اليوم أُنكر صاحبي / إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
وقد صار قلبي قابلا كل ملة / فمرعى لغزلان ودير لرهبان
ومعبد أوثان وكعبة طائف / وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أَنّى توجّهت ركائبه / فالحب ديني وإيماني"…
ابن عربي نادر في تاريخ الإسلام. إنّه حقا معاصر لنا، إذ اعترف بالدّيانات الوثنيّة وساواها بالتوحيديّة منذ ثمانية قرون. ومازال فقهاء الظاهر، لا يعترفون حتى باليهودية والمسيحيّة، زاعمين أنّهما مجرّد شريعتين نُسختا بالشريعة الإسلاميّة… لا بأس بتدريس هذه الأبيات، في جميع المدارس وجميع البلدان، في مادة حوار الأديان المطلوب استحداثها. ولتبدأ بذلك المملكة العربية السعودية، التي بدأت تنفتح على حوار الأديان العالمي. ولا بأس بكتابتها، بجميع اللغات، على واجهة أبواب مؤتمرات حوار الأديان، ردا على فقهاء التعصّب الذين مازالوا يكرّرون "لا معنى لحوار الأديان مع البابا إلا بدعوته إلى دخول الإسلام". قارن هذا التعصب بواقعة وفد نصارى نجران، برئاسة أسقفهم، إلى المدينة للحوار مع نبي الإسلام. كان اليوم يوم أحد، ولما حان وقت إقامة القداس، سأله الأسقف: أين سنصلي يا محمد؟ أجابه: في مسجدي. فلماذا لا يتبادل اليوم المؤمنون بجميع الأديان، الصلاة يوما كل سنة على الأقل، في معابد بعضهم بعضا، إحياء لهذه السنّة النبويّة الحميدة؟ ولعل شيخ الأزهر، المنحدر من الإسلام الصوفي، وريث الإسلام المكي الرّوحي المسالم، سيكون أوّل المبادرين لذلك بدعوة المسلمين للصلاة في الكنائس في عيد الميلاد، ودعوة البابا للمسيحيين للصلاة في المساجد في عيد المولد النبوي.
دراسة الإسلام بعلوم الأديان، هدفها تعليم أدمغة الناشئة التمرن على الصرامة المنهجية، والانضباط المعرفي، والفكر النقدي، وهي العدة الضروريّة لفهم النص وتفكيكه والنقاش فيه بلا محرمات مستبطنة، مازالت حتّى الآن تشكل عوائق تعتقل عقل المسلم فلا يعود قادرا على فهم موضوعه.
أضفتَ أيضا الفلسفة لعلوم الأديان. فكيف تساهم الفلسفة في فهم الدّين؟
الفلسفة ضروريّة لفهم الدّين والحياة. لإنتاج الحكمة فيهما. العالم الذي نعيش فيه لا يحتاج إلى القوّة بل إلى الحكمة. الفلسفة تدرّب أدمغة التلامذة والطلبة على استخدام الفكر النّقدي، الذي يستدعي جميع الادعاءات الدينيّة والدنيويّة للمثول أمام محكمة العقل، لتحاول تبرير معقوليتها. كما تدرب الأدمغة على استخدام قوة الحجة، بدلا من حجة القوة، التي توشك أن تجعل العالم غير قابل للحكم وربّما أيضا غير قابل للحياة. تعلمهم لذّة الاكتشاف، والفضول المعرفي، أي ثقافة السّؤال التي حرّمها الفقهاء. كما تحصنهم ضدّ ثقافة الاستشهاد، وهذيانها عن الشّهيد الذي لا يموت، وعن القصر و 72 حورية اللواتي ينتظرن أمامه قدوم القاتل القتيل لافتضاضهن بعدما نفذ جريمته في الأبرياء، تعلم أبناءنا أن يهتموا بمستقبلهم الآن وهنا، تشفيهم من مرض الحنين إلى الماضي، الذي هو حنين إلى فترة الطفولة، فترة الإعفاء من المسؤولية؛ ومن البحث عن مفاتيح حاضرنا ومستقبلنا في ماضينا الذي فات ومات. الإصلاح الديني الشجاع يساعد على طي صفحة ثقافة الاستشهاد بتعويضها بثقافة احترام الحياة، حياتنا وحياة غيرنا. الفلسفة، المفككة للأساطير، تساعد على ذلك.
هذه الروح البوذية المتسامحة والمسكونية (أي العالمية) كانت قوام الإسلام الأول، ونصت عليها كثير من الآيات الكريمة، مثل "والذين يؤمنون بما أُنزل إليك وما ُأُنزل من قبلك". وبهذا المعنى فالمسلم هو في الوقت ذاته يهودي ومسيحي وصابئ، لأن هذه الديانات جميعا طريق للخلاص الروحي للمؤمنين بها، مصداقا للآية 69 من سورة المائدة: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابؤون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون". فهذا الوعد القرآني يعتبر الأديان المعروفة آنذاك طريقا للخلاص الروحي. لكن هذه الآية، كالآيات الأخرى التي تتعارض مع التوسع الإمبراطوري، على حساب الديانات الأخرى، نسخها فقهاء النرجسية الدينية، فقد نسخوا 75 آية، اعترفت بالحرية الدينية وحرية الضمير والتسامح الديني وحوار الأديان، بآية واحدة وحيدة قرؤوها كعادتهم قراءة حرفية هي "إنما الدين عند الله الإسلام".
وهذه جرأة فقهية ترقى إلى مرتبة الفضيحة: آية سجاليّة تنسخ عشرات الآيات التي أسست للتسامح الديني الضروري، خاصة لعصرنا: عصر حروب الأديان المعلنة أو الكامنة! وعلى مدرسة المعقول الديني اليوم أن تنسخ النسخ، وترد الاعتبار لآيات الحرية الدينية المتطابقة مع العقلانية الدينية وحقوق الإنسان. وهو إنجاز حققه الإسلام الصوفي بنسخه النسخ. سجل ذلك المتصوفة في شعر جميل، مثل عبد الكريم الجيلي القائل، منذ حوالي 6 قرون:
"فطوراً تراني في المساجد راكعاً / وطوراً تراني في الكنائس راتعاً
إن كنت في حكم الشريعة عاصياً / سأكون في حكم الحقيقة طائعاً"
الجيلي، لا يبالي بحكم الشريعة النرجسية الملتفة على نفسها كعمامة. الحكم الوحيد الذي يرتضيه، هو حكم الحقيقة الصوفية، الحقيقة الروحية التي نلتقي بها في كل الديانات، بما فيها الوثنية، وفي كل أنساق التفكير بما فيها الإلحادية. كما يقول ابن عربي أيضاً:
"لقد كنت قبل اليوم أُنكر صاحبي / إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
وقد صار قلبي قابلا كل ملة / فمرعى لغزلان ودير لرهبان
ومعبد أوثان وكعبة طائف / وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أَنّى توجّهت ركائبه / فالحب ديني وإيماني"…
ابن عربي نادر في تاريخ الإسلام. إنّه حقا معاصر لنا، إذ اعترف بالدّيانات الوثنيّة وساواها بالتوحيديّة منذ ثمانية قرون. ومازال فقهاء الظاهر، لا يعترفون حتى باليهودية والمسيحيّة، زاعمين أنّهما مجرّد شريعتين نُسختا بالشريعة الإسلاميّة… لا بأس بتدريس هذه الأبيات، في جميع المدارس وجميع البلدان، في مادة حوار الأديان المطلوب استحداثها. ولتبدأ بذلك المملكة العربية السعودية، التي بدأت تنفتح على حوار الأديان العالمي. ولا بأس بكتابتها، بجميع اللغات، على واجهة أبواب مؤتمرات حوار الأديان، ردا على فقهاء التعصّب الذين مازالوا يكرّرون "لا معنى لحوار الأديان مع البابا إلا بدعوته إلى دخول الإسلام". قارن هذا التعصب بواقعة وفد نصارى نجران، برئاسة أسقفهم، إلى المدينة للحوار مع نبي الإسلام. كان اليوم يوم أحد، ولما حان وقت إقامة القداس، سأله الأسقف: أين سنصلي يا محمد؟ أجابه: في مسجدي. فلماذا لا يتبادل اليوم المؤمنون بجميع الأديان، الصلاة يوما كل سنة على الأقل، في معابد بعضهم بعضا، إحياء لهذه السنّة النبويّة الحميدة؟ ولعل شيخ الأزهر، المنحدر من الإسلام الصوفي، وريث الإسلام المكي الرّوحي المسالم، سيكون أوّل المبادرين لذلك بدعوة المسلمين للصلاة في الكنائس في عيد الميلاد، ودعوة البابا للمسيحيين للصلاة في المساجد في عيد المولد النبوي.
دراسة الإسلام بعلوم الأديان، هدفها تعليم أدمغة الناشئة التمرن على الصرامة المنهجية، والانضباط المعرفي، والفكر النقدي، وهي العدة الضروريّة لفهم النص وتفكيكه والنقاش فيه بلا محرمات مستبطنة، مازالت حتّى الآن تشكل عوائق تعتقل عقل المسلم فلا يعود قادرا على فهم موضوعه.
أضفتَ أيضا الفلسفة لعلوم الأديان. فكيف تساهم الفلسفة في فهم الدّين؟
الفلسفة ضروريّة لفهم الدّين والحياة. لإنتاج الحكمة فيهما. العالم الذي نعيش فيه لا يحتاج إلى القوّة بل إلى الحكمة. الفلسفة تدرّب أدمغة التلامذة والطلبة على استخدام الفكر النّقدي، الذي يستدعي جميع الادعاءات الدينيّة والدنيويّة للمثول أمام محكمة العقل، لتحاول تبرير معقوليتها. كما تدرب الأدمغة على استخدام قوة الحجة، بدلا من حجة القوة، التي توشك أن تجعل العالم غير قابل للحكم وربّما أيضا غير قابل للحياة. تعلمهم لذّة الاكتشاف، والفضول المعرفي، أي ثقافة السّؤال التي حرّمها الفقهاء. كما تحصنهم ضدّ ثقافة الاستشهاد، وهذيانها عن الشّهيد الذي لا يموت، وعن القصر و 72 حورية اللواتي ينتظرن أمامه قدوم القاتل القتيل لافتضاضهن بعدما نفذ جريمته في الأبرياء، تعلم أبناءنا أن يهتموا بمستقبلهم الآن وهنا، تشفيهم من مرض الحنين إلى الماضي، الذي هو حنين إلى فترة الطفولة، فترة الإعفاء من المسؤولية؛ ومن البحث عن مفاتيح حاضرنا ومستقبلنا في ماضينا الذي فات ومات. الإصلاح الديني الشجاع يساعد على طي صفحة ثقافة الاستشهاد بتعويضها بثقافة احترام الحياة، حياتنا وحياة غيرنا. الفلسفة، المفككة للأساطير، تساعد على ذلك.
* المصدر