كان يمر من أمام المنزل ، ذو الوجه الأبيض المستدير ،
بملامح المحايدة . الجلباب الخفيف مناسب في طوله ولونه لقامته وهالته . يمر في الصباح
الباكر في طريقه إلى متجره الصغير ، هناك حيث يبيع بقايا من ذاكرة هذه القرية .
كساد تجارته لا يرجع لقلة كلامه وإيجازه في كل قول ، على عكس من يسعى إلى حمل لقب
التاجر ، بل الزمن الذي تغير وغير الناس هو السبب في ذلك . فلا أحد يأبه لشراء سلة
يصنعها هو من سعف النخيل .
يواظب على صناعته اليدوية ، ربما حبا لهذه المهنة التي
ورثها عن أبواه ، وربما ملئا للفراغ الكبير الفاصل بين استعراض واستعراض . قديما
كان يستعرض قدراته الخارقة مرة في الأسبوع ، في كل أربعاء منه ، أمام السوق.
ودائما ما كان ذلك يدر عليه من الخيرات ما يملأ بطنه وبقية البطون المرصوصة في
الدار . ويكون الخير أكبر يوم استعراضه السنوي في ليلة المولد النبوي ، وسط القرية
. تجتمع النساء والرجال والأولاد ليحظروا تحول الإنسان البسيط إلى رجل خارق ، بل
إلى معجزة .
تغيرت الأحوال ، والسوق الأسبوعي أضحى حكاية قروي على
سبيل التهكم ، وأحيل هو على قاعة الاحتضار . ربما هذا ما جعله في إصرار منقطع
النظير يلتزم بالعمل في متجره الصغير ، في مقاومة للنسيان .
يعاوده الأمل في هذا الوقت من كل سنة ، فيستنفر قبل يوم
أو يومين المجموعة اللازمة من الرجال والعتاد لإحياء ليلة المولد النبوي على إيقاع
عرض خرافي لا أحد يعلم سره . الجميع يستعد لحضور عرضه الذي أضحى سنويا .
دقت الطبول في إيقاع خرافي ، ارتفعت حناجر الرجال
بالنشيد السحري ، وابتدأ العرض. بقدمين حافيتين مر على الجمر ، زغردت النسوة وهلل
الرجال . رفع إبريق الماء الحامي وشرب منه . بدت الدهشة واضحة على وجوه الجميع ،
وعادت روحه إلى الانتشاء ، فرفع الرهان . تعالت الأناشيد ، فراقص في تناغم مع
ضربات الدف. رفع كفيه عاليا ، ملوحا باليسرى المفتوحة توديعا وباليمنى ممسكا
الخنجر الحاد . في لحظة فاصلة اختفى كل ضوت من أذنيه . اجتمع الخلق عليه وبدت له
رؤوسهم تعلوه وهو ناظر إلى السماء .
بقلم عصام بقسيم