في العالم العربي، لا يزال حضور المرأة في الشارع العمومي يثير سلوكات ذكورية عنيفة، تنطلق من النظرةالمفتّشة الملحّة لتنتهي بالاغتصاب، مرورا بالمعاكسة والتحرش. مرد ذلك أن الفاعل الاجتماعي العربي، من خلال سوسيولوجيته العفوية، يحمِّل المرأة مسؤولية التفكك الأخلاقي والاجتماعي الذي تعاني منه المجتمعات العربية التي لا تفرض الحجاب أو الفصل الصارم بين الجنسين. ويمكن تشخيص مثل هذا الموقف الذكوري في ما قاله الثنائي الكوميدي بزيز وباز إلى النساء المغربيات: "إما تعدن إلى جلابيبكن وإما نخلع سراويلنا".
قول فج يخلو من كل لباقة وحضارة، لكن هذه الفجاجة التي تكرس كراهية النساء السائدة تؤشر على غزو إسلاموي لفن الكوميديا والمسرح، أي لشكل تعبيري يفترض فيه أن يكون رافعة لتحديث الفكر والسلوك اليومي. هل تشكل هذه العبارة حادثة سير مؤلمة في مسيرة الفنانين المغربيين؟ أم أنها دفاع مقتنع بنفسه عن حقوق الرجال أمام "هجمة الخطر النسائي".
إن رد الفعل الإسلاموي ضد الاختلاط الجنسي "المنحرف" و"المحرِّف" (في نظر الإسلامويين) يعيد إلى ذهن العالِم الاجتماعي ما عرفه المغرب في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي). فحسب الكثير من المؤرخين الاجتماعيين، يتميز هذا القرن من التاريخ المغربي بكونه مسرحا لانحلال جنسي بدون حدود، وفي الوقت ذاته منتجا لفقه إصلاحي متشدد وطهراني. وفعلا، يبدو أن "غيرة الرجال على النساء تلاشت" في هذا القرن، وأن الاختلاط بين الجنسين وقع في الأماكن العامة، وأن "الأعراس شهدت مناكر متعددة". بدت الساكنة منكبة على الشهوات، في جري وراء الجسد الموشوم المهيج للرغبة، الراقص على نغمات "الزفان"
. وعمَّ التخليق، أي هروب الرجل بالمرأة إما طوعا وإما كرها، وهو ما قاد فقهاء العصر إلى الإفتاء بالضعيف، أي إلى تأبيد تحريم الهاربة على الهارب المخلِّق (وهو قول ابن ميسر في المذهب المالكي). في ألفيته، يصف الهبطي بعض تلك السلوكات قائلا: "تستحم النساء عاريات مع الرجال ويلعبن معهم في الماء… أما العروس، فيَشِمُها رجل ويقبلها أصدقاء العريس… وتعري النساء عن النمنمات الموشومة على جسدهن أمام الواشم لينقلها على جسد العروس، وذلك من الجبهة إلى الساقين… أما المرأة التقية والمتعبدة، فموضوع تهكّم، خلافا للمرأة الزانية التي يشاد بها".
من المؤشرات الدالة على تحميل المرأة ما يقع من انحلال خلقي في هذا القرن، ظهور عبد الرحمان المجذوب والطريقة (الصوفية) العكازية. من خلال رباعياته، عبر المجذوب عن كراهية المرأة وعن ضرورة الاحتياط من حبالها المتعددة. وقد رأى فيها تجسيدا لكل الصفات السلبية من كيد وطمع ونفاق وخيانة وشذوذ… أما العكاكزة، فقد قالوا بشيوع المرأة: "المرأة كالسجادة، صلِّ وأعْطِ لأخيك يصلي". وقالوا أيضا بحلية إتيان الأم والأخت. ويذهب العكاكزة إلى وطء الزوجة بحضور زوجها لكي يتمكن هذا الأخير من ضبط نفسه وقتل كل شعور بالكبرياء والعزة.
أمام هذا التردي الأخلاقي والديني، قام الهبطي بالتحرك داخل المنطقة (غمارة في شمال المغرب) رفقة طلبته قصد الوعظ والإرشاد، وقصد محاربة البدع المستحدثة. وقام أحمد بن عرضون من جهته بتأليف "مقنع المحتاج في آداب الأزواج" ليصلح الفساد، اعتقادا منه أن مغرب القرن العاشر الهجري في حالة تيه وفي حاجة ماسة إلى العودة إلى السلف الصالح حتى تخف عنه حدة العقاب الإلهي من حروب ومجاعات وأوبئة. من هنا، يمكن اعتبار ابن عرضون إسلامويا بالنظر إلى قوله بضرورة رجوع الدين وبضرورة الرجوع إلى الدين، فذلك الرجوع في نظره هو العلاج الجذري للأمراض الاجتماعية الناتجة عن تسيب المرأة.
إن تحميل المرأة مسؤولية ما يقع من مصائب تأويل ذكوري وسطحي للتاريخ يتجاهل أو يجهل الأسباب الحقيقية للأحداث. ففيما يتعلق بما أصاب المغرب في النصف الأول من القرن 16م، لا بد من التذكير بتمزق السلطة السياسية بين الوطاسيين والسعديين إلى حدود 1544 ميلادية، علاوة على احتلال المدن الشاطئية من طرف البرتغال وعلى الحروب بين القبائل والزوايا، وهي ظواهر متداخلة ومتشابكة. كل ذلك أدى إلى تقلص نفوذ السلطة المركزية ومن ثم إلى تراجع احترام تعاليم الفقه وموانعه. أكثر من ذلك، عمَّ شعور بقرب الساعة (السنة 1000 الهجرية، آخر الزمان)، وهو ما يفسر التهافت على الملذات. إلى أي حد يمكن قراءة الموقف الإسلاموي المعاصر انطلاقا من هذا النموذج؟
نظرا لكونها لا تتمتع بطيبات الحداثة وملذاتها، ترفض الشرائح الاجتماعية العربية الفقيرة الحداثة الجنسية بدعوى أنها تتعارض مع الإسلام وبدعوى الرجوع إلى الهوية. فظروف عيش تلك الشرائح لا يساعدها بتاتا على المشاركة بل على تقبل الليبرالية الجنسية وعلى استيعاب أخلاقياتها. فبالنسبة للمسلم الفقير والمقهور، "تشكل النظرة إلى تلك النساء المجملات واللاتي يستطعن الضحك والكلام بصوت عال دون أن يصطحبهن أحد، واللاتي يشبهن النساء اللواتي يقبلهن الرجال بسهولة على شاشة التلفزيون، (تشكل النظرة إليهن) قلقا كبيرا" كما كتبت صوفي بسيس وسهير وبلحسن. إن الحداثة الجنسية، باعتبارها إثارة مستمرة واستفزازا مقلقا، تُستوعَب كفسق وفجور، كعودة إلى الجاهلية. وبالتالي، تكمن مهمة المصلح الإسلامي/الإسلاموي (في نظره) في تحرير الجماهير المسلمة من التسمم الجنسي الحداثي. فالاختلاط الجنسي دون قيد ولا شرط اختلاط مَرَضي في نظر ذلك المصلح. في هذه النقطة بالذات، يجد الإسلاميون سندا لدى بعض العلماء التقليديين، المتخرجين من جامع القرويين مثلا. هكذا يكتب الكتاني أن "التقدم والتحرر لا يعنيان الكشف عن السيقان والأكتاف والأفخاذ، ولا يعنيان النكاح قبل عقده". ويذهب العمراني في نفس الاتجاه حين يقر بأن عودة المرأة إلى الدين تشكل لوحدها حل المشكلة.
لا شك أن هناك استمرارية بين هؤلاء العلماء المعاصرين وبين الهبطي وابن عرضون من جهة، وبين كل هؤلاء والموقف الإسلاموي المتشدد في قضيتي المرأة والجنس، فكلهم يقولون بضرورة وضع الحجاب. بالنسبة للإسلامويين، يجسد الحجاب سلاح المعركة الحالية، ضد الفتنة، أي ضد الحداثة الجنسية، فهو يحمي المرأة عند تحركاتها ويحفظ جمالها في نظر عباسي مدني. إن خطر الاختلاط الجنسي يضبط بفضل الحجاب أو الفصل بين الجنسين في الجامعة، في الشواطئ وفي الحافلات… من هنا يبدو أن الإسلاموية لا تظل صامتة أو لامبالية أمام إشكالية استهلاك المرأة للمجال العمومي. لكن غالبا ما لا تقول بإجبار المرأة على البقاء في البيت، خصوصا في الدول العربية التي تحتاج إلى عمل المرأة من أجل الرفع من إنتاجيتها. وتتبنى الكثير من النساء هذا المنظور بحيث يعتبرن أنفسهن مصدر فتنة. في هذا الصدد تقول عاملة في الدار البيضاء: "المرأة هي سبب الفتنة. لكي لا نثير الفتنة، علينا أن نضع الحجاب إلى أن نودع في القبر".
ما الذي يجعل هذا الطرح الإيديولوجي يجد آذانا صاغية في صفوف الشرائح الاجتماعية، المحرومة منها على وجه الخصوص؟ كيف تتحول المرأة المسلمة إلى امرأة إسلاموية تقبل حجب جسدها ووأده عند استهلاك المجال العمومي؟ في الواقع، يمكن تأسيس فرضية الترابط بين الشخصية الأصولية المتشددة وبين الحرمان الجنسي انطلاقا من خمسة براهين نظرية وإمبريقية. البرهان الأول يكمن في الترابط الذي أقامه رايخ (W. Reich)، انطلاقا من تجربته الإكلينيكية، بين الزهد (في الحياة) والتصوف من جهة وبين اضطراب التجربة الجنسية من جهة ثانية. وهذا ما قاده إلى اعتبار النزعة التصوفية حنينا وتطلعا لاشعوريا إلى لحظة الذروة الجنسية. فكلما اضطربت التجربة الجنسية، تم البحث عن الاتحاد بالله، بمعنى أن الاتحاد الروحي بديل عن الاتحاد الجسدي الفاشل أو الغائب. أما البرهان الثاني، فقد وضعه عالم نفس اجتماعي أميركي اسمه والين (Wallin) مفاده أن تديُّنَ الزوجات الأميركيات يهدف إلى تقليص المفعول السلبي لحرمانهن الجنسي على حياتهن الزوجية.
إن التدين هنا تدين تعويضي، فهو يساعد النساء المحرومات جنسيا على بلوغ نشوة روحية غير جنسية، أعلى وأسمى. أما البرهان الثالث، فقد توصل إليه أولا كينسي (Kinsey) ثم ماسترز وجونسون (Masters and Johnson) ويبين بدوره الترابط الإحصائي بين الاضطرابات الجنسية وبين ارتفاع الممارسات الدينية. وأخيرا يقيم عالم الاجتماع الألماني هيلموت رايش (H.Reiche) البرهان الخامس حين يبين كيف أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة تؤدي إلى ظهور أخلاق جنسية متشددة ومحافظة.
تأكدنا من هذا البرهان الخامس في البحث الميداني حول فاس سنة 1994، ذلك البحث الذي أفرز نتيجتين هامتين. مفاد الأولى أنه كلما تقلصت مساحة المجال المنزلي، ارتفع رفض تغيير الأوضاع الجنسية عند الجماع واعتبر ذلك شذوذا. وفحوى الثانية أنه كلما انخفضت درجة الإسلاموية، ارتفع قبول تغيير الأوضاع الجنسية (قصد الإشباع الجنسي المتبادل).
كل هذه البراهين النفس-اجتماعية تمكن من اعتبار الإسلاموية (أيضا) حنينا وتطلعا لا شعوريا إلى جنسانية مُرْضِية وكاملة. وفعلا، يبدو الإشباع الجنسي أكثر تعذرا في مساكن ذات كثافة سكانية مرتفعة، كما أن السلوكات الجنسية الترقيعية التي يمارسها العزاب لا توصل بدورها إلى رضا جنسي حقيقي. إن المجال ليس متاحا، والنساء بدورهن بدأن يرفضن جنسانية ذكورية لا تبادل ولا تحقيق ذات فيها.
ومن ثم، وارد أن الإسلاموية يمكن أن تعبر (أيضا) عن تطلع لاشعوري لذروة جنسية متعددة مع زوجات متعددات. فالعجز الاقتصادي والاجتماعي (والسياسي) الذي يعاني منه المسلم المقهور اليوم، والذي يمنعه من التحكم في النساء، يقوده إلى التشبث بقوة بإسلام يحفظ له امتيازاته الذكورية بغض النظر عن أوضاعه المادية المزرية. ويحفظ له حقه في متعة جنسية متعددة انطلاقا فقط من ضرورات فحولته (المزعومة اجتماعيا ونفسيا). بالإمكان أن نرى (أيضا) في الإسلاموية مطالبة بجنسانية تستهدف الإنجاب (عوض المتعة)، وتقوم على تعدد الزوجات (عوض الزوج) لأنها رفض للحداثة الجنسية ولأن الحداثة الجنسية تكمن في المتعة وفي الزوج وفي الربط بينهما. فالإسلاموية، كمشروع سياسي لا يزهد لا في السلطة ولا في الجنس، تسعى (أيضا) إلى استعادة الرجل المسلم لامتيازاته التعددية، الأبيسية التقليدية، وتحاول مقاومة تحديث العلاقات بين الجنسين وتحديث العلاقات الجنسية.
إن رد الفعل الإسلاموي ضد الاختلاط الجنسي "المنحرف" و"المحرِّف" (في نظر الإسلامويين) يعيد إلى ذهن العالِم الاجتماعي ما عرفه المغرب في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي). فحسب الكثير من المؤرخين الاجتماعيين، يتميز هذا القرن من التاريخ المغربي بكونه مسرحا لانحلال جنسي بدون حدود، وفي الوقت ذاته منتجا لفقه إصلاحي متشدد وطهراني. وفعلا، يبدو أن "غيرة الرجال على النساء تلاشت" في هذا القرن، وأن الاختلاط بين الجنسين وقع في الأماكن العامة، وأن "الأعراس شهدت مناكر متعددة". بدت الساكنة منكبة على الشهوات، في جري وراء الجسد الموشوم المهيج للرغبة، الراقص على نغمات "الزفان"
. وعمَّ التخليق، أي هروب الرجل بالمرأة إما طوعا وإما كرها، وهو ما قاد فقهاء العصر إلى الإفتاء بالضعيف، أي إلى تأبيد تحريم الهاربة على الهارب المخلِّق (وهو قول ابن ميسر في المذهب المالكي). في ألفيته، يصف الهبطي بعض تلك السلوكات قائلا: "تستحم النساء عاريات مع الرجال ويلعبن معهم في الماء… أما العروس، فيَشِمُها رجل ويقبلها أصدقاء العريس… وتعري النساء عن النمنمات الموشومة على جسدهن أمام الواشم لينقلها على جسد العروس، وذلك من الجبهة إلى الساقين… أما المرأة التقية والمتعبدة، فموضوع تهكّم، خلافا للمرأة الزانية التي يشاد بها".
من المؤشرات الدالة على تحميل المرأة ما يقع من انحلال خلقي في هذا القرن، ظهور عبد الرحمان المجذوب والطريقة (الصوفية) العكازية. من خلال رباعياته، عبر المجذوب عن كراهية المرأة وعن ضرورة الاحتياط من حبالها المتعددة. وقد رأى فيها تجسيدا لكل الصفات السلبية من كيد وطمع ونفاق وخيانة وشذوذ… أما العكاكزة، فقد قالوا بشيوع المرأة: "المرأة كالسجادة، صلِّ وأعْطِ لأخيك يصلي". وقالوا أيضا بحلية إتيان الأم والأخت. ويذهب العكاكزة إلى وطء الزوجة بحضور زوجها لكي يتمكن هذا الأخير من ضبط نفسه وقتل كل شعور بالكبرياء والعزة.
أمام هذا التردي الأخلاقي والديني، قام الهبطي بالتحرك داخل المنطقة (غمارة في شمال المغرب) رفقة طلبته قصد الوعظ والإرشاد، وقصد محاربة البدع المستحدثة. وقام أحمد بن عرضون من جهته بتأليف "مقنع المحتاج في آداب الأزواج" ليصلح الفساد، اعتقادا منه أن مغرب القرن العاشر الهجري في حالة تيه وفي حاجة ماسة إلى العودة إلى السلف الصالح حتى تخف عنه حدة العقاب الإلهي من حروب ومجاعات وأوبئة. من هنا، يمكن اعتبار ابن عرضون إسلامويا بالنظر إلى قوله بضرورة رجوع الدين وبضرورة الرجوع إلى الدين، فذلك الرجوع في نظره هو العلاج الجذري للأمراض الاجتماعية الناتجة عن تسيب المرأة.
إن تحميل المرأة مسؤولية ما يقع من مصائب تأويل ذكوري وسطحي للتاريخ يتجاهل أو يجهل الأسباب الحقيقية للأحداث. ففيما يتعلق بما أصاب المغرب في النصف الأول من القرن 16م، لا بد من التذكير بتمزق السلطة السياسية بين الوطاسيين والسعديين إلى حدود 1544 ميلادية، علاوة على احتلال المدن الشاطئية من طرف البرتغال وعلى الحروب بين القبائل والزوايا، وهي ظواهر متداخلة ومتشابكة. كل ذلك أدى إلى تقلص نفوذ السلطة المركزية ومن ثم إلى تراجع احترام تعاليم الفقه وموانعه. أكثر من ذلك، عمَّ شعور بقرب الساعة (السنة 1000 الهجرية، آخر الزمان)، وهو ما يفسر التهافت على الملذات. إلى أي حد يمكن قراءة الموقف الإسلاموي المعاصر انطلاقا من هذا النموذج؟
نظرا لكونها لا تتمتع بطيبات الحداثة وملذاتها، ترفض الشرائح الاجتماعية العربية الفقيرة الحداثة الجنسية بدعوى أنها تتعارض مع الإسلام وبدعوى الرجوع إلى الهوية. فظروف عيش تلك الشرائح لا يساعدها بتاتا على المشاركة بل على تقبل الليبرالية الجنسية وعلى استيعاب أخلاقياتها. فبالنسبة للمسلم الفقير والمقهور، "تشكل النظرة إلى تلك النساء المجملات واللاتي يستطعن الضحك والكلام بصوت عال دون أن يصطحبهن أحد، واللاتي يشبهن النساء اللواتي يقبلهن الرجال بسهولة على شاشة التلفزيون، (تشكل النظرة إليهن) قلقا كبيرا" كما كتبت صوفي بسيس وسهير وبلحسن. إن الحداثة الجنسية، باعتبارها إثارة مستمرة واستفزازا مقلقا، تُستوعَب كفسق وفجور، كعودة إلى الجاهلية. وبالتالي، تكمن مهمة المصلح الإسلامي/الإسلاموي (في نظره) في تحرير الجماهير المسلمة من التسمم الجنسي الحداثي. فالاختلاط الجنسي دون قيد ولا شرط اختلاط مَرَضي في نظر ذلك المصلح. في هذه النقطة بالذات، يجد الإسلاميون سندا لدى بعض العلماء التقليديين، المتخرجين من جامع القرويين مثلا. هكذا يكتب الكتاني أن "التقدم والتحرر لا يعنيان الكشف عن السيقان والأكتاف والأفخاذ، ولا يعنيان النكاح قبل عقده". ويذهب العمراني في نفس الاتجاه حين يقر بأن عودة المرأة إلى الدين تشكل لوحدها حل المشكلة.
لا شك أن هناك استمرارية بين هؤلاء العلماء المعاصرين وبين الهبطي وابن عرضون من جهة، وبين كل هؤلاء والموقف الإسلاموي المتشدد في قضيتي المرأة والجنس، فكلهم يقولون بضرورة وضع الحجاب. بالنسبة للإسلامويين، يجسد الحجاب سلاح المعركة الحالية، ضد الفتنة، أي ضد الحداثة الجنسية، فهو يحمي المرأة عند تحركاتها ويحفظ جمالها في نظر عباسي مدني. إن خطر الاختلاط الجنسي يضبط بفضل الحجاب أو الفصل بين الجنسين في الجامعة، في الشواطئ وفي الحافلات… من هنا يبدو أن الإسلاموية لا تظل صامتة أو لامبالية أمام إشكالية استهلاك المرأة للمجال العمومي. لكن غالبا ما لا تقول بإجبار المرأة على البقاء في البيت، خصوصا في الدول العربية التي تحتاج إلى عمل المرأة من أجل الرفع من إنتاجيتها. وتتبنى الكثير من النساء هذا المنظور بحيث يعتبرن أنفسهن مصدر فتنة. في هذا الصدد تقول عاملة في الدار البيضاء: "المرأة هي سبب الفتنة. لكي لا نثير الفتنة، علينا أن نضع الحجاب إلى أن نودع في القبر".
ما الذي يجعل هذا الطرح الإيديولوجي يجد آذانا صاغية في صفوف الشرائح الاجتماعية، المحرومة منها على وجه الخصوص؟ كيف تتحول المرأة المسلمة إلى امرأة إسلاموية تقبل حجب جسدها ووأده عند استهلاك المجال العمومي؟ في الواقع، يمكن تأسيس فرضية الترابط بين الشخصية الأصولية المتشددة وبين الحرمان الجنسي انطلاقا من خمسة براهين نظرية وإمبريقية. البرهان الأول يكمن في الترابط الذي أقامه رايخ (W. Reich)، انطلاقا من تجربته الإكلينيكية، بين الزهد (في الحياة) والتصوف من جهة وبين اضطراب التجربة الجنسية من جهة ثانية. وهذا ما قاده إلى اعتبار النزعة التصوفية حنينا وتطلعا لاشعوريا إلى لحظة الذروة الجنسية. فكلما اضطربت التجربة الجنسية، تم البحث عن الاتحاد بالله، بمعنى أن الاتحاد الروحي بديل عن الاتحاد الجسدي الفاشل أو الغائب. أما البرهان الثاني، فقد وضعه عالم نفس اجتماعي أميركي اسمه والين (Wallin) مفاده أن تديُّنَ الزوجات الأميركيات يهدف إلى تقليص المفعول السلبي لحرمانهن الجنسي على حياتهن الزوجية.
إن التدين هنا تدين تعويضي، فهو يساعد النساء المحرومات جنسيا على بلوغ نشوة روحية غير جنسية، أعلى وأسمى. أما البرهان الثالث، فقد توصل إليه أولا كينسي (Kinsey) ثم ماسترز وجونسون (Masters and Johnson) ويبين بدوره الترابط الإحصائي بين الاضطرابات الجنسية وبين ارتفاع الممارسات الدينية. وأخيرا يقيم عالم الاجتماع الألماني هيلموت رايش (H.Reiche) البرهان الخامس حين يبين كيف أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة تؤدي إلى ظهور أخلاق جنسية متشددة ومحافظة.
تأكدنا من هذا البرهان الخامس في البحث الميداني حول فاس سنة 1994، ذلك البحث الذي أفرز نتيجتين هامتين. مفاد الأولى أنه كلما تقلصت مساحة المجال المنزلي، ارتفع رفض تغيير الأوضاع الجنسية عند الجماع واعتبر ذلك شذوذا. وفحوى الثانية أنه كلما انخفضت درجة الإسلاموية، ارتفع قبول تغيير الأوضاع الجنسية (قصد الإشباع الجنسي المتبادل).
كل هذه البراهين النفس-اجتماعية تمكن من اعتبار الإسلاموية (أيضا) حنينا وتطلعا لا شعوريا إلى جنسانية مُرْضِية وكاملة. وفعلا، يبدو الإشباع الجنسي أكثر تعذرا في مساكن ذات كثافة سكانية مرتفعة، كما أن السلوكات الجنسية الترقيعية التي يمارسها العزاب لا توصل بدورها إلى رضا جنسي حقيقي. إن المجال ليس متاحا، والنساء بدورهن بدأن يرفضن جنسانية ذكورية لا تبادل ولا تحقيق ذات فيها.
ومن ثم، وارد أن الإسلاموية يمكن أن تعبر (أيضا) عن تطلع لاشعوري لذروة جنسية متعددة مع زوجات متعددات. فالعجز الاقتصادي والاجتماعي (والسياسي) الذي يعاني منه المسلم المقهور اليوم، والذي يمنعه من التحكم في النساء، يقوده إلى التشبث بقوة بإسلام يحفظ له امتيازاته الذكورية بغض النظر عن أوضاعه المادية المزرية. ويحفظ له حقه في متعة جنسية متعددة انطلاقا فقط من ضرورات فحولته (المزعومة اجتماعيا ونفسيا). بالإمكان أن نرى (أيضا) في الإسلاموية مطالبة بجنسانية تستهدف الإنجاب (عوض المتعة)، وتقوم على تعدد الزوجات (عوض الزوج) لأنها رفض للحداثة الجنسية ولأن الحداثة الجنسية تكمن في المتعة وفي الزوج وفي الربط بينهما. فالإسلاموية، كمشروع سياسي لا يزهد لا في السلطة ولا في الجنس، تسعى (أيضا) إلى استعادة الرجل المسلم لامتيازاته التعددية، الأبيسية التقليدية، وتحاول مقاومة تحديث العلاقات بين الجنسين وتحديث العلاقات الجنسية.